طارق الشرع – كاتب
كطفل يحلم بلقاء نجم عالمي كنت فعلا أترقب رؤيته وإن لم أعد طفلا حينها ، أترقب سرد أي جزء عن حياته في جلسات الأدب والثقافة ، وفي كل مرة كنت أكتشف شيئاً جديداً في حياته ، عملاً غير اعتيادي يبعث بملامح الشخصية نحو عوالم الخيال، وما يعقد الأمر ليس هذا العمل أو ذاك وإنما تجمعها في إطار شخصية وحيدة .
أعتقد بأنني كنت أميل في كثير من الأوقات بعد الاستماع لجوانب خفية من حياته إلى رفض هذه الفكرة، فحتى في زمن الأساطير كانت الأسطورة تدعم جانبا مميزا في حياة الشخصية؛ فهذا قوي عضلياً وذاك داهية والآخر ساحر وبعده ظهر الشاعر…. لكنني لا أذكر توفر عدد من هذه الصفات في شخصية واحدة ، لهذا كنت في كل مناسبة استماع أو قراءة أدون شيئا جديدا ، فيكفي أولاُ أن أعلم باسم رائد القصة القصيرة في ليبيا ، بدأت المعلومات عن حياته بعدها تتساقط واحدة تلو الأخرى ، لم يكن مخزونه من الترجمة عن الإيطالية أمرا بعيدا عن سابقاته ثم مناضل وطني ..مناضل عربي داعم للقضية الفلسطينية … وزير لأكثر من وزارة في أكثر من مرحلة ..مندوب ليبيا في الأمم المتحدة … مؤسس لإذاعات عربية في روما ….مؤرخ لفترة لم تؤرخ …. وما أثار فضولي نحوه معرفتي بأن هذه الشخصية ليست حقيقية فحسب بل وعلى قيد الحياة و تعيش في المدينة التي أقطنها ، لذا كنت أرتاب كلما حاولت التفكير بلقائه ، وحدث الأمر دون سابق إنذار لكنني حينها شاهدته فقط.
ففي أحد المناشط الثقافية بالمدينة فوجئت بترديد اسم البوري كمكرم في حفل الختام وكنت أتخيل طلته في تلك الأمسية كلما دخل شخص من باب القاعة ولم تكن صورته التي لم أرها حتى ذلك الوقت تشبه صورة أخيل في السينما الأمريكية أو صورة زوربا اليوناني كما جسدها أنطوني كوين … كنت أتخيل شكلا مختلفا لا أذكره الآن لكنه كان يساندني في محاولة التعرف عليه قبل الآخرين …فهو ليس هذا الشاب ولا ذاك الأربعيني وطبعاً لن يكون صاحب الزي الشعبي وحتماً لن يكون …. لكن الجميع هبوا نحوه ..قد يكون ..بالطبع فقد سمعت السيدة الجالسة خلفي تتحدث لصديقتها عن حضور وهبي البوري ….. في الحقيقة تأكدت وقتها بأن مخيلتي جامدة لعدم قدرتها إدخال العامل الزمني على ملامح الجسد الذي صار يستنجد بالعكاز لحمل جسده المترهل ، وفي وقت قياسي استسلمت لمراقبة الصورة الحقيقية ، كنت أستمتع بمشاهدة تاريخ مثير من العطاء اللامحدود ، لحظة ظننت بأنها لن تتكرر لكنها فعلت ليس بمحض المصادفة هذه المرة .
فمن بين المحاولات الفاشلة نحو تقديم مشاريع طموحة في حياتي أتاح لي أحدها فرصة التواجد في بيت وهبي البوري لإجراء لقاء معه ، اعتقدت يومها بأني سأنتظر كثيراً في صالونه الشخصي لأحفل بمجالسته ليس لكونه شخصية هامة في حياة ليبيا فقط بل لأنني صرت أعلم حينها بعجزه عن السير دون استخدام عكازه المزدوج ، لكن البوري أصر على تشكيكي في قدراتي التخيلية للمرة الثانية حيث وصل البوري لصالونه في وقت قياسي بمساعدة حفيده ( محمد ) وكان كما رأيته أول مرة محتفظا بأناقته وهدوئه .
قبل تلك الجلسة ظننت بأنني قد جهزت نفسي بشكل جيد لمحاورة شخصية مؤثرة في تاريخ ليبيا الحديث ، لكنني لم أنتظر لأكثر من طرح سؤال واستقبال إجابته لأكتشف أن البوري يحتاج مؤسسة بحثية لمحاورته وإخراج ما لديه من خفايا في غاية الأهمية حول تجربته الكبيرة ، إلا أننا كعادتنا دائماً ننتظر مرور الوقت لننعم بافتقاده ، ولأن البوري يعلم ذلك لم ينتظرنا وإلا فلن يكون أسطورة ، فقبل أن يستسلم وهبي البوري للموت رمى بآخر أوراقه …. فبينما كانت الحياة تلمم أوراقها استعدادا للخروج الأخير لم ينس إبهام البوري إنجاز آخر أعماله وهو يرقص في بياض استمارة عقد كتابه الجديد ….. والأخير .