الأخبار الشاملة والحقيقة الكاملة​

2025-04-22

10:31 مساءً

أهم اللأخبار

2025-04-22 10:31 مساءً

التجربة عند خليفة الفاخري

01

بقلم امجاور غريبييل

هل الكتابة هي مجرد حشد للكلمات والألفاظ والعبارات والجمل والصور ؟ أم هي معاناة حقيقية تغذيها الذاكرة وتثيرها التجربة ويدعمها الخيال ويصوغها الحلم ؟ ، وهل التجربة الذاتية للكاتب ضرورية وكافية وحدها لإنجاز مشروعه الأدبي  ؟ أم إن الأدب في جوهره هو انعكاس لمعاناة وتجارب الآخرين ؟.

 في مقال يعود إلى سنة (1968) بعنوان ” اعطنا تجربة ”  يقول خليفة الفاخري :

 ” …نحن جيل فارغ .. لا نملك أية تجربة تربطنا سوياً ، سوى حماقاتنا الفردية الممتلئة بالغرور والادعاء الأجوف الواسع الشدقين … إننا جيل فقير لم يدخل تجربة واحدة ، يا أيتها السماء أعطنا تجربة واحدة ، واحدة فحسب “.

 ولأن الفاخري كان يعلم قبل غيره أن السماء لا تمطر ذهباً ولا تجارباً ، فقد قرر الرحيل إلى الشمال بحثاً عن تجربة ، إقتداءاً بصديقه الصادق النيهوم ، الذي ترك الوطن قبل ذلك بسبع سنين ، والذي كان ينصحه باستمرار بمغادرة سوق الحشيش ، لأنه على حسب تعبيره مجرد بالوعة مناسبة للصراصير ، لكنها تبتلع الناس الرائعين .

 الصادق النيهوم لا يخفي عدم إيمانه بالتجربة ، لأنها ليست أصل الكلمة على حد قوله ، بل ليست أصل أي كلمة على الإطلاق ، فإننا لا نستطيع بالتجربة وحدها أن نفعل أي شيء.

 التجربة عند الفاخري مجرد جسر يعبره الرجال الواثقون بأقدام حذرة لاستطلاع حقيقة الضفة الأخرى ، إنها إدراك جانب مركّز من الحياة ، تنطلق على أساسه لخلق عمل رائع ، أما غير ذلك فهو ضياع متناهي مدمر .

 لم تكن تجربة سوق الحشيش وميدان الحدادة وشوارع الشويخات ولحيول  ، وبيته المطل على مقبرة سيدي حسين كافية في نظره ، رغم أنها برهنت لنا على مقدرته على حشد الكلمات الجميلة ومقدرته أيضاً على بعث الحياة فيها من خلال ملئها بالصور التي كانت تعكس الواقع الذي خاصمه الفاخري وشاكسه ، ولكن ليس إلى حد القطيعة معه .

 في عناء الكلمات يقول الفاخري “… من يستطيع أن ينقل بالكلمات كل الجمال الذي يجده … إن ذلك يحتاج إلى كمية من الضوء  … إن الكلمات في كل اللغات غير قادرة بأي حال إن تربط ما بين الحدث المتوهج الذي يقع بين طرفي الحياة نفسها … إن حل هذه المشكلة يأتي  بطريقة أخرى ، ضع الصور بجانب بعضها ، واكتب ذلك بأكثر الطرق اختصاراً ، وتذكر أن القارئ  آلة تضارع الحياة في تعقيدها … “

 هذا ما فعله ألفاخري تماماً وهو يكتب ( الهزيمة ، والأصدقاء ، وعلى الأرض السلام ، وحكاية رجل رياضي ، وسنوات العمر الصدئة ، والوجه الطيب القديم ) .

 في ( الوجه الطيب القديم )  يقدم الفاخري صورة بالغة الجمال تكاد من فرط روعتها أن تنطق “…كان الحي منتعشاً … وكانت تعشعش في ميدانه الصغير شجرة الورد ناثرة أغصانها عبر إحدى الزوايا ، فيما تستلقي أوراق كرمة العنب من فوق ذلك السطح ، وتكاد تملأ جبين الجدار بالبقع الخضراء ، كان هناك عنقود خجول يطل مع إطلالة شهر يوليو على الميدان ، ولقد تعود الصبية أن يتسلقوا الجدار بطريقة ما وينزلوه من بين الأوراق …”    

 يقول الأستاذ محمد عقيلة العمامي في كتابه ” منابت الريح ” ليس بالإمكان  تصوير ميدان سوق الحشيش في ذلك الوقت بأكثر من ذلك ، ولو سألت أحد سكان الحي آن ذاك لقال إن العنقود يتدلي من بيت فلان .

 في ( سنوات العمر الصدئة ) أحس كل من قرأ المقال أن الفاخري كان يحكي عن طفولتنا جميعاً  ” … أصدقائي .. طفولتي رديئة ، أكثر رداءة مما يتصوره خيال بشري ، فأنا لم أكن قادراً على أن أبدو ولداً صالحاً ، إذ كانت قدماي تنزلقان بيسر بالغ إلي ارتكاب أفظع الحماقات بلا انقطاع ، يلتوي منها أنف الشيطان امتعاضاً ..

  لكن  الفاخري الذي قال عنه الصادق النيهوم في معرض تعليقه على مقال (سنوات العمر الصدئة )  ” إنه كاتب صلد القدمين ينهض بأحزانه وقدرته المذهلة على معالجة كلماته بالعرق والنار ” لم يعي جيداً كلام صديقه أو إنه تعمد تجاهله على نحو ما ، فنراه عام ( 1970 ) يحزم حقائبه ويجمع مدخراته ويرحل إلى مدن الشمال بحثاً عن تجربة .

 في مقاله ( لا تجري أمام الكلاب ) الذي كان إحدى ثمار هذه التجربة ، تصفعك ريح باردة ، وتزكم انفك روائح التبغ النتن والخمور الرخيصة المنبعثة من حانة ( القرصان ) وتصم أذنيك الأصوات المزعجة التي تبثها مكبرات الصوت في محطة قطارات ( فيكتوريا ).

 إن مأزق الفاخري  الحقيقي إنه لم يستطع الانسلاخ عن جلده ، فجاءت كتاباته اختزالا لتجربته الخاصة جداً . فالقارئ الذي لم يغادر سوق الحشيش وميدان الحدادة ، ولا يعرف أن هناك عالماً آخر وراء بحر الصابري ، لا يعنيه في شيء ذلك الوصف الرائع الذي وصفه الفاخري لحانة القرصان . 

 في ( أحزان قديمة )  تشعرنا كلماته بالغربة والحنين الذي يعبر بوضوح عن خواء التجربة التي عاشها . 

  رحلتك طالت  يقول الفاخري : ” طالت إلى أمد بعيد لم تعد تعرف فيه من أين بدأت وإلى أين يريدك الله أن تذهب ، وأنت لا زلت تذرع أرض الله بلا زاد تحمله ، سوى رؤياك القديمة وذكريات التسول والحلم عبر المطر بيت وزوجة نحيلة تطهو لك طعاما جيدا ….”

في تجربته الثانية التي استمرت لسنوات عديدة ما بين عامي ( 1975 و 1981 ) قضاها في الشمال ، صمت الفاخري صمتا طويلا ، أشبه بصمت مقبرة سيدي حسين التي شهدت حجرته المطلة عليها إنتاجه الغزير .

 عندما سأل الراوي الكبير نجيب محفوظ عن أسباب توقفه عن الكتابة خلال سبع سنوات أعقبت قيام الثورة  المصرية ، أجاب بأنه رأي كل أحلامه تتحقق  ولم يعد لديه ما يقوله ، فهل كان لدى الفاخري ما يقوله ، أم إن تجربته الثانية التي تحققت فيها رؤياه القديمة وحلمه ببيت وزوجة نحيلة تطهو له الطعام ، هو ما يعلل صمته المطبق .

في قصته ( النوارس ومنابت الريح ) أعاد خليفة أكتشاف نفسه ولو قدر له ان يعيش بيننا أطول مما عاش لقرأنا له أدباً مختلفاً ، لكنها تصاريف القدر التي لا نملك معها إلا التسليم ، وسلام إلى روح خليفة بعدد الكلمات التي كتبها قلمه المبدع.

شارك المقالات:

مواقيت الصلاة

حالة الطقس

حاسبة العملة

Manage push notifications

notification icon
We would like to show you notifications for the latest news and updates.
notification icon
You are subscribed to notifications
notification icon
We would like to show you notifications for the latest news and updates.
notification icon
You are subscribed to notifications