بقلم امجاور غريبييل
هل الكتابة هي مجرد حشد للكلمات والألفاظ والعبارات والجمل والصور ؟ أم هي معاناة حقيقية تغذيها الذاكرة وتثيرها التجربة ويدعمها الخيال ويصوغها الحلم ؟ ، وهل التجربة الذاتية للكاتب ضرورية وكافية وحدها لإنجاز مشروعه الأدبي ؟ أم إن الأدب في جوهره هو انعكاس لمعاناة وتجارب الآخرين ؟.
في مقال يعود إلى سنة (1968) بعنوان ” اعطنا تجربة ” يقول خليفة الفاخري :
” …نحن جيل فارغ .. لا نملك أية تجربة تربطنا سوياً ، سوى حماقاتنا الفردية الممتلئة بالغرور والادعاء الأجوف الواسع الشدقين … إننا جيل فقير لم يدخل تجربة واحدة ، يا أيتها السماء أعطنا تجربة واحدة ، واحدة فحسب “.
ولأن الفاخري كان يعلم قبل غيره أن السماء لا تمطر ذهباً ولا تجارباً ، فقد قرر الرحيل إلى الشمال بحثاً عن تجربة ، إقتداءاً بصديقه الصادق النيهوم ، الذي ترك الوطن قبل ذلك بسبع سنين ، والذي كان ينصحه باستمرار بمغادرة سوق الحشيش ، لأنه على حسب تعبيره مجرد بالوعة مناسبة للصراصير ، لكنها تبتلع الناس الرائعين .
الصادق النيهوم لا يخفي عدم إيمانه بالتجربة ، لأنها ليست أصل الكلمة على حد قوله ، بل ليست أصل أي كلمة على الإطلاق ، فإننا لا نستطيع بالتجربة وحدها أن نفعل أي شيء.
التجربة عند الفاخري مجرد جسر يعبره الرجال الواثقون بأقدام حذرة لاستطلاع حقيقة الضفة الأخرى ، إنها إدراك جانب مركّز من الحياة ، تنطلق على أساسه لخلق عمل رائع ، أما غير ذلك فهو ضياع متناهي مدمر .
لم تكن تجربة سوق الحشيش وميدان الحدادة وشوارع الشويخات ولحيول ، وبيته المطل على مقبرة سيدي حسين كافية في نظره ، رغم أنها برهنت لنا على مقدرته على حشد الكلمات الجميلة ومقدرته أيضاً على بعث الحياة فيها من خلال ملئها بالصور التي كانت تعكس الواقع الذي خاصمه الفاخري وشاكسه ، ولكن ليس إلى حد القطيعة معه .
في عناء الكلمات يقول الفاخري “… من يستطيع أن ينقل بالكلمات كل الجمال الذي يجده … إن ذلك يحتاج إلى كمية من الضوء … إن الكلمات في كل اللغات غير قادرة بأي حال إن تربط ما بين الحدث المتوهج الذي يقع بين طرفي الحياة نفسها … إن حل هذه المشكلة يأتي بطريقة أخرى ، ضع الصور بجانب بعضها ، واكتب ذلك بأكثر الطرق اختصاراً ، وتذكر أن القارئ آلة تضارع الحياة في تعقيدها … “
هذا ما فعله ألفاخري تماماً وهو يكتب ( الهزيمة ، والأصدقاء ، وعلى الأرض السلام ، وحكاية رجل رياضي ، وسنوات العمر الصدئة ، والوجه الطيب القديم ) .
في ( الوجه الطيب القديم ) يقدم الفاخري صورة بالغة الجمال تكاد من فرط روعتها أن تنطق “…كان الحي منتعشاً … وكانت تعشعش في ميدانه الصغير شجرة الورد ناثرة أغصانها عبر إحدى الزوايا ، فيما تستلقي أوراق كرمة العنب من فوق ذلك السطح ، وتكاد تملأ جبين الجدار بالبقع الخضراء ، كان هناك عنقود خجول يطل مع إطلالة شهر يوليو على الميدان ، ولقد تعود الصبية أن يتسلقوا الجدار بطريقة ما وينزلوه من بين الأوراق …”
يقول الأستاذ محمد عقيلة العمامي في كتابه ” منابت الريح ” ليس بالإمكان تصوير ميدان سوق الحشيش في ذلك الوقت بأكثر من ذلك ، ولو سألت أحد سكان الحي آن ذاك لقال إن العنقود يتدلي من بيت فلان .
في ( سنوات العمر الصدئة ) أحس كل من قرأ المقال أن الفاخري كان يحكي عن طفولتنا جميعاً ” … أصدقائي .. طفولتي رديئة ، أكثر رداءة مما يتصوره خيال بشري ، فأنا لم أكن قادراً على أن أبدو ولداً صالحاً ، إذ كانت قدماي تنزلقان بيسر بالغ إلي ارتكاب أفظع الحماقات بلا انقطاع ، يلتوي منها أنف الشيطان امتعاضاً ..
لكن الفاخري الذي قال عنه الصادق النيهوم في معرض تعليقه على مقال (سنوات العمر الصدئة ) ” إنه كاتب صلد القدمين ينهض بأحزانه وقدرته المذهلة على معالجة كلماته بالعرق والنار ” لم يعي جيداً كلام صديقه أو إنه تعمد تجاهله على نحو ما ، فنراه عام ( 1970 ) يحزم حقائبه ويجمع مدخراته ويرحل إلى مدن الشمال بحثاً عن تجربة .
في مقاله ( لا تجري أمام الكلاب ) الذي كان إحدى ثمار هذه التجربة ، تصفعك ريح باردة ، وتزكم انفك روائح التبغ النتن والخمور الرخيصة المنبعثة من حانة ( القرصان ) وتصم أذنيك الأصوات المزعجة التي تبثها مكبرات الصوت في محطة قطارات ( فيكتوريا ).
إن مأزق الفاخري الحقيقي إنه لم يستطع الانسلاخ عن جلده ، فجاءت كتاباته اختزالا لتجربته الخاصة جداً . فالقارئ الذي لم يغادر سوق الحشيش وميدان الحدادة ، ولا يعرف أن هناك عالماً آخر وراء بحر الصابري ، لا يعنيه في شيء ذلك الوصف الرائع الذي وصفه الفاخري لحانة القرصان .
في ( أحزان قديمة ) تشعرنا كلماته بالغربة والحنين الذي يعبر بوضوح عن خواء التجربة التي عاشها .
رحلتك طالت يقول الفاخري : ” طالت إلى أمد بعيد لم تعد تعرف فيه من أين بدأت وإلى أين يريدك الله أن تذهب ، وأنت لا زلت تذرع أرض الله بلا زاد تحمله ، سوى رؤياك القديمة وذكريات التسول والحلم عبر المطر بيت وزوجة نحيلة تطهو لك طعاما جيدا ….”
في تجربته الثانية التي استمرت لسنوات عديدة ما بين عامي ( 1975 و 1981 ) قضاها في الشمال ، صمت الفاخري صمتا طويلا ، أشبه بصمت مقبرة سيدي حسين التي شهدت حجرته المطلة عليها إنتاجه الغزير .
عندما سأل الراوي الكبير نجيب محفوظ عن أسباب توقفه عن الكتابة خلال سبع سنوات أعقبت قيام الثورة المصرية ، أجاب بأنه رأي كل أحلامه تتحقق ولم يعد لديه ما يقوله ، فهل كان لدى الفاخري ما يقوله ، أم إن تجربته الثانية التي تحققت فيها رؤياه القديمة وحلمه ببيت وزوجة نحيلة تطهو له الطعام ، هو ما يعلل صمته المطبق .
في قصته ( النوارس ومنابت الريح ) أعاد خليفة أكتشاف نفسه ولو قدر له ان يعيش بيننا أطول مما عاش لقرأنا له أدباً مختلفاً ، لكنها تصاريف القدر التي لا نملك معها إلا التسليم ، وسلام إلى روح خليفة بعدد الكلمات التي كتبها قلمه المبدع.