الأخبار الشاملة والحقيقة الكاملة​

2024-09-19

6:45 مساءً

أهم اللأخبار

2024-09-19 6:45 مساءً

01-18

 أمجاور اغريبل                                                                                  

 إنه انحياز للمرأة ..سافر الوجه واليدين .. أشفق على كل أنثى تمارس الكتابة ، لأن اللغة كائن ذكوري صنعها الرجل خلال تاريخه الطويل ، فيما كانت المرأة منزوية في ركن الحريم تزاول مهنة الحكي . يقول عبد الحميد الكاتب أحد فحول الكتابة العربية ..”أن خير الكلام ما كان لفظة  فحلا ومعناه بكراً..” معلناً بذلك عن قسمة غير عادلة ،يكون فيها للذكر سبق السيادة على اللفظ ، تاركاً للأنثى معنىً حائراً لا وجود له إلا في ظل لفظٍ فحل .وهذه القسمة أدت بدورها الى قسمة أخرى استولى فيها الرجل على الكتابة وأحتكرها لنفسه تاركاً للمرأة مهمة الحكي ، مما أدى الى إحكام سيطرته على اللغة والفكر والثقافة بل وعلى كتابة التاريخ والذاكرة .. في رواية (ذاكرة الجسد ) حاولت أحلام مستغانمي أن تكتب التاريخ وتستنطق الذاكرة ،لكنها في ظل ألفاظ فحله ، وضمائر مذكرة ، ولغة تعتبر التذكير هو الأصل ، لم يكن لديها من خيار سوى أن تتخلى عن أنوثتها وان تتحول الى ذكر لكي تكتب وتمارس لغة الرجل … في لقاء مع الكاتبة عبرت بوضوح عن هذا الاسترجال ومسخ الأنوثة الذي تتعرض له المرأة وهي تتصدى للكتابة ، عندما قالت (( إنها وجدت أن التحدث بلسان الرجل يسهل عليها الكتابة ويساعدها على السرد ويجعلها تقول ما تعجز عن قوله كأنثى )) .

 أبطال روايتها هم من الفحول الذين يصنعون اللغة والتاريخ والذاكرة وتشاركهم البطولة  إن صح التعبير أنثى ، معنى حائراً لا يستقر على ضفاف ، يتحور يتبدل وتتغير دلالته بتغير اللفظ الفحل . فهي ابنة ( سي الطاهر ) أحد أبطال الثورة الجزائرية الذين ماتوا قبل أن يشهدوا الاستقلال ، وهي ملهمة لزياد الشاعر الفلسطيني ، ولخالد الرسام التشكيلي ورفيق والدها في الجهاد ، الذي أحب فيها شبابها في مقابل كهولته وجسمه المشوه ، وهي في النهاية زوجة لأحد الطفيليين الذين ظهروا عقب الثورة فسرقوا مكاسبها دون أن يخسروا قطرة دم واحدة في سبيلها . إن المرأة هي أفضل من يسرد ويروي ويحكي ، وهي تفعل ذلك باقتدار عجيب وبخبرة اكتسبتها من حكايات ألف ليلة وليلة ، حيث كانت تقاوم الموت بالحكي ، والتوحش  بالسرد ،   والرغبة القاتلة بالرواية التي تستولد رواية جديدة كل ليلة وتحمل في رحمها نصاً لا ينتهي . أحلام مستغانمي في روايتها تكلمت بلسان الرجل ، وقد فعلت ذلك مجبرة غير مختارة ، لأنها أمام لغة وتاريخ وذاكرة صنعها الرجل لا تملك حيالها إلا أن تكون رجلاً ، ولعل ميزتها أنها فعلت ذلك عن وعي ، على عكس غيرها من الأديبات ، فها هي غادة السمان تقول .. “ما أروع وما أسوأ  أن تكون امرأة  ..” دون أن تنتبه إلى أنها تستعمل ضمير الذكورة للتعبير عن أنوثتها ، وها هي نوال السعداوي في كتاباتها تتحدث بضمير المذكر للدفاع عن قضايا تخص الأنثى .

 ماذا كان يمكن لأحلام مستغانمي أن تكتب لو أنها تحدثت بضمير الأنثى والذاكرة التي صنعها الرجل لا تختزن سوى صورة مشوهة لها ، فهي جارية وساحرة ، وأداة للتسلية والمتعة .

 ماذا كان يمكن لها أن تكتب والتاريخ لا يعترف إلا بالأبطال الذكور والأذكياء الذكور .إن العبقرية ذاتها حكراً علي الذكور . فها هي مي زيادة إحدى الرائدات في مجال تحرير المرأة والكتابة لا تجد حرجاً في أن تقول أتمنى أن أكون في عبقرية الرجل .

 ماذا كان يمكن لها أن تكتب واللغة يجري استلاب أنوثتها بتذكيرها وردها إلى أصل مفترض هو التذكير .

 إن التشويه الذي تعرضت له الكاتبة عندما أرغمت على السرد بضمير لغوي غير ضميرها الأنثوي وبذاكرة غير ذاكرتها الأنثوية ، قابلته بتشويه مضاد لأبطال روايتها ( ن ) حيث يتعرض خالد بطل الرواية لعملية بتر لذراعه إثر إصابته بجرح بليغ في إحدى المعارك.

 ، والبتر عند فرويد هو رمز مرادف لفقد الرجولة ، كأن الكاتبة أرادت أن ترد على تذكير اللغة والتاريخ والذاكرة بإلغاء رمز هذا التذكير ، التشويه طال أيضاً مناضلي الأمس الذين تحولوا إلى سماسرة وانتهازيين ولصوص ، لم يسلم من التشويه سوى زياد الشاعر الفلسطيني ، لعل مرد ذلك إلى أن الكاتبة هي شاعرة أيضاً ، كما أنها لا تريد للتشويه أن يطال الذاكرة التي يمثلها الشاعر حتى وإن كانت ذاكرة ذكورية . على أمل أن تفلح المرأة يوماً في كتابة ذاكرتها لتصنع مع ذاكرة الرجل ذاكرة واحدة للوطن .

 بطلة الرواية تحمل اسم (أحلام) وهو نفس اسم الكاتبة أي أن هناك تطابقاً  ما بين الذات والموضوع ، ما بين كاتبة الرواية وبطلتها ، لم تعد المرأة مجرد موضوع ، لم تعد مجرد علامة تأنيث ، لم تعد معنى تستدعيه الذاكرة ، صارت ذاتاً ، أو دعونا نكون اقل تفاؤلاً لنقول صارت ذاتاً في طور التشكيل و الانعتاق .

 أحلام في معنى آخر من معانيها هي رمز للوطن الذي استشهد من أجله أبطال الثورة الجزائرية والذي ينعم بخيراته السماسرة والانتهازيون واللصوص والعسكر ، ولقد كان مشهد دمها المسفوح على فستان عرسها الأبيض ليلة زفافها إلى أحد أبناء الجنرالات رمزاً آخر يرمز إلى دم الجزائريين المسفوح على أعتاب التطرف والجاهلية و عسف السلطة .

  أحلام مستغانمي كانت تستبق الأحداث وتدافع عن نفسها ضد هجوم محتمل عندما قالت على لسان بطلتها ..” لا تبحث كثيراً ..  لا يوجد شيء تحت الكلمات . إن امرأة تكتب هي امرأة فوق الشبهات .. إن الكتابة تطهر  ، ابحث عن القذارة حيث لا يوجد أدب ” وكانت تمارس نقداً ذاتياً عندما قالت.. “سيقول نقاد يمارسون النقد عوضاً عن أشياء أخرى إن هذا الكتاب ليس رواية ، إنه هذيان رجل لا علم له بمقاييس الأدب . وتضيف أيضاً .. ” أؤكد مسبقاً جهلي واحتقاري لمقاييسهم ، فلا مقياس عندي سوى مقياس الألم ، ولا طموح لي سوى أن أدهشك وأن أبكيك لحظة تنتهين من قراءة هذا الكتاب ” .

 أدهشتنا أحلام مستغانمي وهي تنسف قواعد الرواية وتخرج عن أصول اللعبة ،لتكتب لنا نصاً ينزف شعراً ، ودماً ، وألماً ، وسرداً ،  تكتب لنا نصاً يحتفي باللغة ويجعلها بطلة له ، تلك اللغة التي حاول المستعمر الفرنسي وأدها ، فإذا بها تبعث على يدها من جديد

 أدهشتنا وهي تقتحم حصون الرجل وتدخل محرابه وتحطم ثالوثه المقدس ، السلطة التي مارسها بسادية عبر التاريخ ، والدين الذي أحتكر كهنوته وطقوسه ، والجنس الذي كان له فيه دور ذكر الماعز .

المصادر : ذاكرة الجسد / رواية أحلام مستغانمي / دار الآداب – الطبعة الثالثة _ المرأة واللغة / عبد الله الغذامي


اكتشاف المزيد من المنصة الليبية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شارك المقالات:

مواقيت الصلاة

حالة الطقس

حاسبة العملة