قارؤنا المثقف.. يرتبك الكلام على اللسان مهما تنمق حينما يكون الباحث عن سيرته شلالا يتدفق من وتين تنوع ثقافي معمق في كل ألوانه .. تتنقل من مقال في صحيفة أو مجلة ورقية قديمة أو إلكترونية الآن .. ثم تقف عند رواية وتارة تأخذك الدهشة لفتح الستار وولوج الركح مع كل الشخوص المنتمين لقلمه عبر فكرة غير معتادة بعنوان يستوقفك مندهشا ( القرود / السعداء / علكة / عندما تحكم الجرذان / ….. وغيرها وغيرها ) مما بدأ يكتبه في بداية السبعينيات من القرن الماضي وما تواصل به حتى عامنا هذا ونحن نبحث عنه للاقتراب من مشهدية حياته عام 2024 م مع اختلافات مناخية أدبية كما سياسية وحتى أجواء محيطة وطبيعة بدت تأخذ طبائع ليست لها فمابالكم بمن عاش يسبر غور كل ما حوله ليكون إنسانا بدعا ومبدعا إنسانا بذات إبهارات المعنون وإسقاطات ما تحمله الوريقات والمعاني الحياتية المتقلبة والمتغيرة المنسوخة لأكثر من حدث ومعنى وموقف حي حتى أو ميت ..
كنت ومازلت حين أتحدث معه أخاف الخطأ رغم تواضعه وبساطته فهو ذاك العميق الممتليء فكريا حد أنني أكتشف داخله الطفل المشاكس والشيخ الحكيم والفيلسوف المتأني من عينيه الغائرتين وملامح وجهه القريبة من إنسان ليبي قديم سكن الكهوف وعاش بين قبائل الليبو والتحنو والمشواش .. إنه الكاتب المسرحي والأديب الروائي والمؤرخ منصور بوشناف ابن بيئة استحلبت مكنوناته ببساطتها .. فصبغته البساطة رغم عظم مايملك من معارف تضعه بجدارة في بداية أسماء المثقفين الليبيين .. هو ابن ليبيا التي قال فيها : بإمكاننا أن نتعايش ونبني الوطن رغم اختلاف أفكارنا وتوجهاتنا دون قناع .. منصور بوشناف أديب ومسرحي وروائي ومؤرخ ليبي من مواليد بني وليد جنوب طرابلس زيد في 22/10/1954 فكان المنتمي لجيل تمتع بمُناخ مؤسساتي كان سائدا في ليبيا في عمره .. فالمدرسة كما عاشها كانت تضطلع بمسؤولية رعاية طلابها والاهتمام بتكوينهم العلمي بأساتذة ومعلمين حقيقيين اعتنوا بالعلوم الأكاديمية كما بتدريس المسرح والموسيقى والرسم حتى أنه حين شرد متحدثا عن تلك الحقبة من عمره في المدرسة التي صقلت مواهبه مع شحذ معارفه الأكاديمية حافظا الفضل لذويه قال :
” إن الفضل في تكويني ونشأتي ثقافياً وفكرياً أولا إلى المدرسة ثم إلى المعلمين الأوائل في مدرسة مصراتة المركزية وكنت أراها ومازلت ذاك ” المشتل ” لما تمتعت به من زخم ثقافي وفني وتعليمي في رعاية المواهب تلكم المرحلة من دراستي فيها وتنقلي من بيئتي الأم ذات الطابع الريفي والبدوي، إلى بيئة جديدة نهلت منها علما وأنميت مواهب وربما صقلتها عبرها يصقلها أيضا .. فمن مجتمع بني وليد البسيط ومنزل الأهل المفتقر للكتاب والمكتبة إلى براح مدينة مصراتة ومدرستها المركزية ، التي ارتبطت فيها بالكتاب والمكتبة المدرسية هناك حيث تمكنت من استعارة الكتب وقراءتها وتلخيصها . “
بدأ كتابة مقالات في الصحف الليبية في عام 1970 عندما كان طالبا في جامعة قاريونس، اعتقل في سنة 1973 لمدة ستة أشهر بسب مسرحية ( تداخل الحكايات في غياب الراوي) ثم زادت شهرته عقب اعتقاله في إبريل من العام 1976 فقضى 12 عاما في المعتقل بين كتاب ومثقفين آخرين أفرج عنهم عام 1988 .. فكتب بوشناف العديد من المسرحيات التي تم إنتاجها وبات من بين أشهر الكُتّاب في ليبيا وفي الدول العربية وشمال إفريقيا .
كما عشق الكتابة للمسرح أحب أن يكون ممثلا على الركح فوقف منصور بوشناف لأول مرة كممثل على الرُكح عام 1965 بتشجيع ودفع من قِبل الفنان إبراهيم الكميلي بمدرسة مصراتة المركزية ويضيف أبوشناف أنه رغم عدم استمراريته كممثل إلا أن الفنان الكميلي وطّد صلته بدنيا المسرح مذ ذاك الوقت.. ولازال بوشناف يحتفظ في سجل ذكرياته بأول كتاب قرأه وهو«قصة فتح الأندلس» العام 1965علاوة على خدمات المركز الثقافي الذي كان يُوّفر المجلة والجريدة والكتاب للطلبة المهتمين بنهل العلوم والمعارف كذلك مكتبة المدينة. أقف عند هذه الأسطر لأستقطع للقارئ .. سيرته المتصفة بالنهل ثم النثر حتى البذار والقطاف .. قبل استرسالنا لمعرفة أكثر عمقا عن تشعباته الإبداعية خلال مسيره النير ..من أعماله المسرحية التي تركت بصمة في الوسط الأدبي والمسرحي معا لإسقاطها غير المباشر والشائق في آن
( الإنسان والشيطان)
(رجل يشبه القرد له شعر كثيف وقامة طويلة .. يجلس على كرسي)
(يدخل شاب وسيم أنيق يتقدم نحو الرجل القرد ..)
(1)
الشاب : مساء الخير يا سيدي
الرجل : صباح الخير ..
الشاب : ولكنه مساء ..
الرجل : ولكنه صباح ..
الشاب : يجلس بجوار الرجل .. ليكن .. ليكن صباحاً يا سيدي .. صباح الخير ..
الرجل : خير ..
الشاب : (يخرج علبة سجائر يقدم واحدة للرجل)
الرجل : ما هذا ؟..
الشاب : سيجارة .. ألا تعرفها ..
الرجل : لا .. بكل أسف لا أعرفها ..
الشاب : (يخرج من جيبه زجاجة عطر يرش على الرجل)
الرجل : أوه .. يالرائحة الزكية .. يبدو أن لديك أشياء جميلة أيها الشاب .. ولكن عذراً من تكون ..
الشاب: ألا تعرفني .. أنا الشيطان يا سيدي .. في خدمتكم ..
الرجل : (ضاحكاً) الشيطان .. يقول إنه الشيطان .. (يواصل الضحك)
(يرشه الشاب بالعطر) ويقول أنه الشيطان .. (يضحك) ولكن .. أين بشاعتك أيها الشيطان .. انك .. انك جميل ..
الشاب : بشاعتي .. لا يا سيدي لست بشعاً .. بشاعتي هنا (يشير إلى رأس الرجل ..هنا (يشير إلى جسد الرجل)
الرجل : فيّ أنا .. أنا .. أنا إنسان أيها الخسيس ..
الشاب : لابأس .. لابأس يا سيدي .. أنت .. أنت الجميل وغيرك البشع ولكن كيف تراني أنت الآن.
الرجل : أراك جميلاً .. جميلاً أيها الشيطان .. ولكن أين أضعت قرنيك ..هل استعارهما منك تيس الماعز ؟
الشاب(يضحك):كلا ياسيدي.. إنها برأسك ..
الرجل : (يقف غاضباً يخنق الشاب) ماذا تقول أيها القذر .. سأقتلك سأخلص البشرية منك ..
الشاب : (محاولاً الخلاص من الرجل)
أرجوك .. أرجوك .. ستقتلني هكذا .. لم أفعل لك شيئاً ..
الرجل : أيها الحقير أيها الخسيس الآن عرفتك تذكرت حربي معك
(يضرب الشاب على رأسه فيقع مغشياً عليه _ يشرع في خلع قناع الشاب)
(إظلام تدريجي)
(الرجل يلبس الشيطان قناع وجهه هو ويلبس قناع وجه الشيطان)
(يجلس ويضحك)
(2)
الشيطان /هكذا نعم أنت هكذا شيطان حقيقي.. نعم كما سمعت عن الشيطان
الشيطان : ولكنه قناعك أنت يا سيدي ..
الرجل : (ضاحكاً) قناعي أنا .. لا.. مستحيل هل كانت بشاعتي عارية هكذا وصارخة إلى هذا الحد أنا جميل .. جميل أيها البشع ..
الشيطان : ولكنك جميل بقناعي أنا يا سيدي …
الرجل : وأنت أيها المخلوق المسخره البشع … نعم على حقيقتك .. هكذا بشع بقناعي .. أنا الإنسان .. الجميل .. نعم الجميل وهذا هو الشيطان .. الشيطان البشع .. (يضحك) لن يكون بإمكانك الآن أن تغوي حتى عجوزاً (يضحك) الشيطان سيكون مسخره .. تخيلوه وهو بهذه البشاعة يحاول إغواء فتاة جميلة أو شباب ..
الشيطان : ستفعل أنت بدلي .. نعم سنتبادل الادوار
الرجل : نعم سأصنع بهذا القناع الجميل ما أشاء ؟
الشيطان : نعم .. ستصنع به ما تشاء .. فقط من منا الآن الإنسان …………….
(( إظلام ))
صدر للكاتب رواية أولى تحت عنوان سراب الليل عام 1970 وصدر له ( مضغ العلكة ) باللغة العربية في أوائل عام 2008 من قبل ناشر مستقل في القاهرة وحظر نشرها في ليبيا ومنعت عن التوزيع لتنشرالرواية في 2014 من قبل ناشر مستقل في لندن مع ترجمة بالإنجليزية
ومسرحية / الإرث .. كما أعد منذ فترة مخطوطاته الجاهزة للطبع : إحداها دراسة حول ( الشعر الليبي بين الأعوام 1970 إلى . 1990 ) والثانية رواية بعنوان ( فتوحات ليبية ) ومن تلك العناوين نستشف أكثر اهتمام بوشناف خلال رحلته الإبداعية الحياتية ليس بمعرفة بلده وما فيها وحقيقتها الجغرافية المؤدية لمعرفة تاريخها القديم والحديث .. بمتابعة ما يجري على الساحة العالمية والدولية حاليا بقراءة كل ما يصدر عن ليبيا في المنشورات العالمية بعدة لغات أجنبية وأثناء ذلك اكتشف «أن الدارسين الأجانب للتاريخ والواقع الليبي وصلوا بدراساتهم لأعمق مما وصلنا إليه نحن بالكشف عن بعض الجوانب داخل حركة مجتمعنا الليبي» يهتم بوشناف كثيرا خلال رحلته الإبداعية الحياتية ليس بمعرفة بلده وما فيها وحقيقتها الجغرافية المؤدية لمعرفة تاريخها القديم والحديث .. بمتابعة ما يجري على الساحة العالمية والدولية حاليا بقراءة كل ما يصدر عن ليبيا في المنشورات العالمية بعدة لغات أجنبية وأثناء ذلك اكتشف «أن الدارسين الأجانب للتاريخ والواقع الليبي وصلوا بدراساتهم لأعمق مما وصلنا إليه نحن بالكشف عن بعض الجوانب داخل حركة مجتمعنا الليبي»
حري بنا ونحن نسرد قصة نمو إبداعاته كما صورها هو ورواها في كثير من اللقاءات الصحفية أو المرئية وحتى في الأماسي التي شهدناها معه في دار الفقيه بالمدينة القديمة أو في المهرجانات المسرحية بأماسيها الثقافية المتنوعة في بنغازي مصراته وطرابلس علمنا أن أشهر مسرحياته، «عندما تحكم الجرذان» التي عُرِضت على مسرح جامعة بنغازي منتصف السبعينيات، واعتبرها كثيرون نبوءة بوشناف لأحداث فبراير 2011وأشار بوشناف إلى أنه ليس العمل المسرحي الأول له فقد كتب عملا مسرحيا لأول مرة وهو بعد طالبا في المرحلة الإعدادية أما نصه الشهير «عندما تحكم الجرذان» تزامن مع دراسته الثانوية وعرض فعليا في المرحلة الجامعية .. التي تعرض فيها بسبب مقالاته وأعماله المسرحية الممعنة لكثير من التحقيقات وأسفر واحد منها لاعتقاله لمدة ستة أشهر ثم خرج ليستأنف نشاطه الإبداعي .. حتى أنه ترك الدراسة بعد أن غيبه اعتقال سياسي دام لعدد من السنوات ..
في حياته الإبداعية كثير من المتناقضات تفضي كلها لشيء مهم أنها صنعت من منصور بوشناف هذا المؤرخ والكاتب المسرحي والناقد المتصالح مع نفسه والآخرين وعلى لسانه نورد قولا : «كنت محظوظا حينما سمحت لي الظروف مبكرا بالكتابة والنشر وأرجع ذلك إلى نشأتي وسط بيئة جعلتني أعبر عن مكنونات ذاتي بهامش كبير». فهو ذاك الكاتب الذي عارض سياسيا أفكارا وجد أنها ليست بناءة ولا تخدم إنسان هذه البلد فكريا وحضاريا وبنائيا فكتب المسرحيات التي اعتقل بسببها والمقالات كذلك كما أشرنا في بداية حياته الجامعية وقبلها .. ولكنه أيضا واظب بعد خروجه من معتقله على النشر بصحيفة الفجر الجديد بشكل منتظم .. وقدم محاضرات عن علاقة الفن التشكيلي بالمسرح كما قدم سردا عميقا واصفا عناصر الهشاشة مفهوم الكيان بين روايتيه المترجمات لغير العربية أيضا ( العلكة _ والكلب الذهبي وقد وقع الروايتين خارج الوطن ليبيا في حفل تضمنه معرض القاهرة الدولي للكتاب بتاريخ 30/01/2024م .
بوشناف كمؤرخ من خلال رواياته ورحلاته المتعددة داخل الوطن إذ لم تقنعه الكتب فقط بالاستزادة المعرفية عن تاريخ وميثولوجيا وطنه مترامي الأطراف و الحكايا أيضا .. لم يخف اهتمامه وسعيه وسعيه لاستعادة قراءة التاريخ الإنساني الليبي كمشروعه الثقافي الإبداعي الخاص للبحث في جذور تكوّن الثقافة الليبية والوعي الليبي عبر العصور منذ ما قبل التاريخ إلى الآن ذاكرا هذه الرؤية والسعي في أكثر من محفل ومشيرا لهذا في أماسي ثقافية عدة داخل ليبيا وخارجها ، فشغفه التعرف على (وتوصيل هذا للقارئ قطعا ) ما طرأ على ليبيا من تغيّرات وتبدّلات ومن صعود وانهيارات معنيا أيضا عبر بحثه الجاد بتفاعل الليبيين بشكل مستمر مع الحضارات كافة متأثرين ومؤثرين ، والنبش في التاريخ الليبي «من نافذة الفن» من خلال الأعمال الفنية والأدبية، في محاولة لتقديم سردية ليبية تتسم الخصوصية.
عن تجربته الإبداعية وعمره الذي قضاه في اهتماماته الأدبية والفنية وقراءات صاغته هذا الفيلسوف الحكيم تجاه كنه الحياة ومرامي الإنسان فيها وقدرته على مصارعتها وكيف سيصيغ هذا فنيا وبالتالي يشاهد من لا يقرأ وقد يقرأ من لا يشاهد فقد لمح في مناسبات عدة أن الأدباء الليبيين مهمشين محليا وعربيا ودون تصرف مني هذه كلمات بوشناف أثناء حوار مع إحدى الصحف لنعرفه عن كثب كان وعلى لسانه قال في 3/2/ 2023 م :
” أنا كاتب مسرحي بدأت الكتابة للمسرح منذ سبعينيات القرن الماضي، وتركز اهتمامي على المسرح منذ مرحلة دراستي الابتدائية ثم الإعدادية والثانوية والجامعة وعملت بالمسرح المدرسي والجامعي ثم الوطني وحظيت منذ طفولتي برعاية أساتذة مسرحيين وعملت ببعض الفرق، وكنت محظوظا حيث عرض للجمهور أول نص مسرحي كتبته “كنت عندها بالإعدادية ” ثم عرضت لي مسرحية “الخبر” بالنادي الأهلي مصراتة (السويحلي حاليا) ثم كتبت لفريق المسرح بثانوية مصراتة مسرحية “الهبوط من العالم العاجي” ثم مسرحية “عندما تحكم الجرذان” وبعد انتقالي للجامعة ببنغازي كتبت للمسرح الجامعي مسرحية “صراع” ثم “تداخل الحكايات عند غياب الرواي” وباستثناء “عندما تحكم الجرذان” عرضت تلك المسرحيات، ثم دخلت السجن وكتبت داخل السجن مسرحيتين “في انتظار جميلة” و“رفع السلم” لم تعرضا إلى الآن .. بعد السجن كتبت مسرحية “الإرث” أيضا لم تعرض، ثم “حكايات ليبية” و”جالو” ومسرحيات قصيرة نشرت بمجلة (الفصول الأربعة) ثم مسرحية “السعداء” و“الحجالات” ومسرحية “توقف” و”حكاية طرابلسية” و”أغنية لطرابلس” ومسرحية “الكاسكا”، توقفت عن الكتابة للمسرح منذ 2007م لانشغالي بالكتابة للصحافة والرواية، أي أنني لم أبتعد عن المسرح رغم ذلك فظللت أروي رغم “تداخل الحكايات” وظل أحد مشاغلي الفنية: كيف يمكننا أن نروي حكاية أو قصة في ظل قمع الرواية والقول عموما . “
علّمنا الكاتب المسرحي والمعد البرامجي والناقد المتميز منصور بوشناف أن الشغف بداية القصة التي لا تكتب لها نهاية بل يستمر في كل الاتجاهات التي تتلهف لها الروح ويرسمها العقل مؤكدة الفكرة الناضجة أن ماسيقدم بعد سينفع الناس عبر برنامج إذاعي أو رواية أو توثيق أو عمل مسرحي .. فقد التحق بفرقة المسرح الوطني مصراته ، وعرضت مسرحياته هناك وهو بعد في المرحلة الإعدادية وفاز بجائزة النصوص المسرحية 1973، إضافة لحصوله على العديد من الجوائز في مجال المسرح ، من خلال مهرجان المسرح بليبيا.. وننبش في سيرته الإبداعية أكثر ونرى بوضوح اهتمامه بإعداد البرامج التسجيلية عن الصحراء منها (طريق القوافل) والذي تحصل به على أحد جوائز مهرجان القاهرة للتلفزيون عن فئة البرامج التسجيلية الأديب الكاتب الروائي والمسرحي منصور بوشناف . كما استقطبته بانوراما تخلقت عملا كبيرا ومهما عام 2024 م عنوانها أخاذ جدا (( أنا ليبيا أنا التاريخ )) .. وفي إجابة عن سؤال كيف ولد الشغف لدى بوشناف بالنقوش التاريخية وكتابات الفن الصخري قال ذات حوار « إن ملامسته لهذا الشغف بدأت تترعرع مع قراءته لكتاب المؤرخ الليبي محمد مصطفى بازامة المعنون «ليبيا هذا الاسم في جذوره التاريخية» الصادر عام 1965م ويحكي هذا الكتاب عن عربات الجرمنت وعن الأهرامات الليبية، ويبيّن بوشناف بأن هذا الكتاب استرعى انتباهه إلى كيان مهم وكبير اسمه ليبيا الليبيون يجهلونه .. نعم .. كتاب بازامة يُعد مرجعيته الأولى كونه أسس لعلاقته الجوهرية بالتاريخ الليبي القديم، وحسب قوله إن تجربة السجن وسّعت مداركه حول الكثير من التأملات عن المجتمع الليبي تاريخيا ساردا ” إنه بدأ بتلمّس بلورة وتطور الكيان الليبي عبر التاريخ من مرحلة ما قبل التاريخ وصولا إلى التاريخ المعاصر، موضحا أن مشروع بحثه في تاريخ ليبيا ظل همّه الأساسي، وبعد اطلاعه وقراءاته للفنون والآداب ولجزء كبير من التاريخ كانت أولويته بعد الخروج من السجن هي التعرّف على ليبيا بطريقة مباشرة وليست ضمن الكتب فقط ما جعله يقوم بعدد كبير من الجولات والرحلات امتدت لنحو عشرة آلاف كيلو في الصحراء الليبية وزيارته لأبرز المواقع التاريخية المهمة شمالا وجنوبا متتبعا الفنون الصخرية بدءً من منطقة «إبيار مجّي» في ترهونة مرورا بوادي الناقة في درنة والمنصورة في البيضاء انتهاءً بالجبل الغربي وبجبال أكاكوس.
يعلن بوشناف ابن هذه الأرض المولود من رحمها الخصب استغرابه .. ودائما في أماسيه ولقاءاته عبر الصحف والمجلات والقنوات الإذاعية حينما يأخذه حديث شجون مع مستضيفيه ناح اهتمامات الكتاب الليبيين بتاريخهم يبدى ويعلن استغرابه بأن الليبيين عامة برغم هذا الكيان العظيم فالشعب بخاصته وعامته منفصلين عن هذا الكيان ولاوعي ملحوظ مؤكدا بأن المشكلة لا تكمن في انقطاع الليبيين عن هذا الموروث بقدر عدم وعيهم به وله موضحا ” مشروعي الحقيقي النبش في هذا الموروث وربطه بالوعي الجمعي واظهاره لسطح الوعي وإعادة الثقة بهذا الكيان الليبي فهو ليس مجرد صندوق رمل إنما كيان ليبي مليء وثري جدا بل أكثر ثراءً من الكيانات الأخرى.
منصور بوشناف من أهم الكُتاب الليبيين على مستوى محلي وعلى مستوى الوطن العربي أرسى دعائم معماره الأدبي الخاص ونقشه بإبداعه الفريد .. لذا رؤيته عن الأدب الليبي والأدباء الليبيين أوضحها قائلا :
” إن الأدباء الليبيين كانوا يعيشون هاجسا بعدم الاعتراف العربي بمنتوجهم الأدبي والفكري فالمبدع الليبي تلقى صدمات كثيرة ونكران كبير من الأدب العربي .. ولكن هذا الأمر ليس بغريب باعتبار تحكّم المركزية المشرقية .. فالعرب يقصرون الأدب في حدود مصر والشام فقط وأدب شمال أفريقيا كان بالنسبة لهم شبه مجهول وأحيانا لا يلقون له بالا، وأعزي ذلك إلى الطبيعة الليبية في الانكماش انطلاقا من المومياء الليبية «وان موهجاج»، وبالتالي ظل الليبيون ينكمشون دائما على ذواتهم لا يعبرون عن أنفسهم ، ومكمن الخلل أن الليبي توهّم أنه سيصل باعتراف العرب وتبنيهم .. وأدعو الأديب الليبي الآن إلى ضرورة أن يشق طريقه بنفسه دون الالتفات للمركزية المشرقية فالمبدع الليبي لن يكتب أدبا ولن ينتج فنا حقيقيا ما دام يحاول تكرار المشهد الأوروبي والأجدر أن ينتج بناءً فنيا يحمل مضامين الهُوية الليبية وخصوصية مكوناتها الثقافية والتاريخية والاجتماعية ” .
قيل فيه //
- الحديث عن منصور بوشناف الكاتب والإنسان له محاذيره وتداعياته، فهو بمثابة الصعود إلى قمة جبل يخيل إليك أنها قريبة ومتاحة وفي الحقيقة هي رحلة شاقة محفوفة بالمخاطر تحتاج إلى استعداد فكري، فالطريق إلى سبر غور شخصيته ليست بالأمر الهيّن والسهل.
_ حقا أستشف هذا حتى من أفكار مقالاته النقدية الفكرية .. ففي مقاله لزوم ما يلزم قرأت :
انتقد المؤرخ وعالم الاجتماع “ابن خلدون” رأي المؤرخ “أبوبكر ابن العربي” في ثورة “الحسين بن علي” الذي قال في كتابة” إن الحسين قتل بسيف جده”. فعلى عكس ابن العربي كان ابن خلدون يرى أن الثورة والخروج واجبان إن توفرت العصبية والرسالة للثائر، من أجل وصول الأمير العادل” ومن أعدل من الحسين؟” كما يقول ابن خلدون في رده على “ابن العربي”.
“ابن خلدون” برأيه هذا يتناغم مع أطروحاته النظرية التي حوتها مقدمته والتي ناقضتها بعض فصول تاريخه بكل أسف وإن ظل سياق ذلك التاريخ العام نموذجا مدهشا للنظرية والتطبيق على الصعيد المنهجي والمعرفي في ذلك العصر.
كان ابن خلدون يرى أن الثورة والخروج واجبان إن توفرت العصبية والرسالة للثائر
“ابن خلدون” الذي يعتبر أول منظر للتغير الاجتماعي الشامل، لسقوط ونهوض الحضارات والأمم ……..
- وقالو عنه : منصور بوشناف فيه من الخيال ما يفوق الخيال وفيه من البساطة ما يفوق البساطة وبين الاثنتين نقوش ورموز ومرافئ ومحطات تشعر أحيانا أنه ابن الأكاكوس وقرزة وتارة أخرى هو ابن السرايا والبحر. يستمع إليك بهدوء وكأنه يتعلم منك ويطرح رؤاه بطريقة مبسطة ومختصرة رغم عمقها وصلابتها.
** آخر يقول فيه : ما يميز منصور بوشناف عن معظم الكُتاب أنه متواضع ومتصالح مع نفسه. لم تقف سنوات سجنه عائقا في تجديد أفكاره لم يثأر من المنظومة السياسية التي تسببت في سجنه حتى بعد سقوطها ولم يركب موجة التغيير. إنه ببساطة شديدة شخصية خالية من عقدة الأنا وعقدة الثأر.
_ أصدق ذاك القول وربما شاركتموني قناعتي بالمعنى المقال في الرجل حينما نستكمل جزئية أخرى من ( لزوم مايلزم ) إنه باختصار تعمق ووجد الحل وصاغه على شكل مقال نقدي لعل وعسى سياسي قارئ أو مثقف أو إنسان عادي يتناقلونه ويجدونه ناجعا لخروج الليبيين من النفق فكتب هنا ..
أوجست كونت… قاد العقل السياسي الفرنسي في تلك الفترة للخروج من نفق”الثورة الدائمة”
الفرنسي “اوجست كونت” والذي يعتبره الكثيرون تلميذ” ابن خلدون” ومؤسس “علم الاجتماع” بمعناه الحديث ومؤسس “الفلسفة الوضعية” ومنظر “الثورة الفرنسية الأحدث للخروج من أزمتها ومظاهر فشلها في عصره” يخرج من نظرية” الديناميكا الاجتماعية” أو ضرورة وحتمية التغير والثورة التي هو مبتدعها وصاحبها، إلى نظرية “الاستاتيكا الاجتماعية” كما يسميها وذلك لكبح جماح تلك الثورة ويقدم الفلسفة الوضعية كوصفة طبية لإيقاف نزف تلك الثورة، وخلق التوازن والاستقرار الاجتماعين، وذلك بكبح الطموحات الفردية وإذابة الفرد في المجتمع والسلم بين الطبقات المتصارعة والانتقال بالتفكير من “الخرافي واللاهوتي” إلى “الوضعي أو العلمي “كما يسميه. إنه يدعو وببساطة تامة إلى إيقاف طوفان الثورة.
أوجست كونت الذي ربما لا يذكره الآن إلا بعض معلمي علم الاجتماع في جامعاتنا كان، ومعه الكثيرون من المفكرين، مهندس الاستقرار والبناء في فرنسا وأوروبا، ببساطة لأنه قاد العقل السياسي الفرنسي في تلك الفترة للخروج من نفق “الثورة الدائمة” الذي صنع ماكينة إعدام لا تتوقف عن قطع رؤوس الجميع، وتجر الشعب من المصانع والمزارع ليعملوا كمصفقين لتنفيذ القتل والتعذيب إخلاصا للثورة!!
** ممن قالوا عنه أسوق : بوشناف رمز من رموز الأدب والمسرح وقيمة مهمة على المستوى المحلي والعربي والدولي .. في تقديري المتواضع إن الكاتب منصور بوشناف لم يفرغ كل ما في جعبته الإبداعية ولم يقل كل ما يريد قوله وكأنه ينتظر مرحلة ما أو زمنا آخر أو براحا أرحب أو مساحة أوسع وسأظل أعتقد أنه مازال في القنديل زيت.
_ وهو كذلك مازال في القنديل زيت وها نقرأ في خواتيم مقاله المهم ( لزوم مايلزم ) :
ابن خلدون و أوجست كونت وأدونيس، عربيان وفرنسي وغيرهم بالتأكيد الكثير من المفكرين والعلماء، طرحوا آراء هامة جدا في قضية الثورة والتحول والخروج وتميزوا عن غيرهم بهذا التناقض كما يبدو للوهلة الأولى، ولكنه تناقض مع واقع وليس تناقضا في ذواتهم، تناقض حكمته مراحل الثورات وأدواتها، بكل ما فيها من تناقض وانحرافات، تناقض لابد منه لتصحيح المسار ووقف نزيف مجتمعاتهم بعد الثورات وفي أثنائها.
الفرق المهم بين أفكار ابن خلدون وأدونيس وأوجست كونت، أن أفكار الأخير تحولت إلى برامج عمل للبناء والاستقرار، لتظل أفكار ابن خلدون وأدونيس مثارا للدهشة وللعنة أحيانا من أمتهم،”أمة اقرأ”.
أخيرا ليس آخرا .. في الحكاية ( البوشنافية ) تعلمنا سيرته الإبداعية والحياتية بين الصعب والسلس بين مكامن النور فيها المبهرة كإبهار أعماله المثرية للثقافة الليبية عامة والثقافة الفنية خاصة بين كتابات فنية درامية ومسرحية وإذاعية .. ومكاهف الظلام القاسية التي صقلته وهدته رغم قسوتها لدروب كان فيها نفسه المعطاءة المبدعة .. يعلمنا هو إنسانيا كيف يثري الكاتب وطنه بما يملك من تأثير كلامي شفهي ومكتوب كما تصيغه المقطوعه التي تتلبسه لحظة استلهام فكرة خلاقة فتكون خلقا إبداعيا لا يذيع عن نفسه بل يذيع صيته لمجرد التنويه أنه حضر بكامل هيأته .. عملا مسرحيا كما بدأ بوشناف أو مقالا صحفيا أو رواية أو برنامجا إذاعيا تاريخيا توثيقيا أو أدبي .. فتزخر المكتبة الثقافية المقروءة كما المرئية بأثر وتأثير العبر .. ويستمر العبير.
جمعت سيرته عفاف عبد المحسن