نعيمة الفارسي
كتبت الأستاذة نجاح بن زايد تحت عنوان ” عندما يروي الفيلسوف “ مستقطعة جزئية البداية قبل الاسترسال : حملتني الرواية رأسًا إلى رائعة الفيلسوف الفرنسي فولتير (القضاء والقدر) _ التي قدم لها عميد الأدب العربي طه حسين ، ورغم أن فولتير انتقد من خلال روايته هذه الحياة الأوربية بشكل عام والحياة الفرنسية على وجه الخصوص ، إلا أنني لم أجد صعوبة في إدراك تلك التقاطعات بينها وبين هذه الرواية _ (بصرف النظر عن اختلاف الشخوص والزمان والمكان وطبعًا اختلاف النهاية ) فالرواية ما هي إلا شكل من أشكال الأدب الغاضب كما يطلق عليه الروائي العراقي (علي لفتة سعيد)، التي تكون فيها الكتابة ردة فعل غاضبة على الواقع، لأن الكاتب وجد نفسه واقعًا في فعل قوي أكبر من أن يستوعبه الواقع الاجتماعي، وواقع في خضم التناقضات المجتمعية التي سببها المتغير السياسي، والديني، والمذهبي وحتى القومي، حيث الكل يدعي أنه في المكان الأفضل والأنسب لتكون باقي الأمكنة الأخرى مجرد توابع .. ما يميز رواية (مرّ القدر) فضلًا عن بساطة اللغة وسلاسة الأسلوب، هو تلك الأطر الزمانية والمكانية والتاريخية والاجتماعية والثقافية التي رافقت وصف المدن والأماكن. وهي ميزة لا تحضر دائمًا في النسج الفني الغالب على السرد الروائي.
ونعود للقراءة الثانية للدكتور نعيمه محمد صالح الفارسي حيث يجمعها مع الدكتور محمد المحجوب صفة مهمة تكمن في النظرة المعمقة لفلسفة الحياة جعلتها تقول .. اليوم أكملت قراءة رواية مر القدر التي ارسل لي الدكتور محمد المحجوب نسخة منها ومنحني شرف قرائتها وهي رواية فلسفية تأتي في أربعة وعشرين لوحة فنية فلسفية تحمل كل لوحة قصة وفكرة وقيمة أراد الكاتب من خلالها أن ينقل لنا الكثير من المعاناة والمررات التي يعيشها الانسان في مختلف أصقاع الوطن العربي عبر شخوص الرواية التي تشاركت نفس الهموم والحزن والوجع ونفس الواقع الأليم مع اختلاف الاماكن والزمن .. جسد فيها انور الشاب الليبي عبر رحلة بحثه عن والداته المصرية هند .. والتي لم تر ابنها منذ عقدين من الزمان .. جسد المشاعر وتضاربها والحيرة بين الحب والحزن والرغبة في التوقف .. والشكوك .. لتظهر لنا خلال هذه الرحلة الفلسفية في الراوية العديد من الشخصيات التي تمثل كل منها قيمة ما أراد من خلالها إيصال فكرة …
فالعم منصور صديق العائلة وهو من مدينة الزنتان يظهر اللحمة والتقارب بين أبناء الوطن الواحد رغم تباعد المسافات ولتحمل كل شخصية قصة معاناة من العم مراد الي جدة انور والدة هند الي العم فتحي وخطيبة انور كل هذه الشخصيات تم سردها بطريقة فلسفية قادرة علي إرباك وضعية القارئ الفكرية .. حين يضع نفسه في فضائها ويتماهي مع أي مأزق وجودي أو اجتماعي عاشته هذه الشخصيات ويصبح دورها اقرب الي ترجمة أخلاقية وحياتية تنقل جوهر الفكر من ماهيته النظرية الي أفقه التطبيقية .. من خلال تحولات الشخصيات وطرق تعاملها مع واقعها وفي إبرام المصالحة المنشودة مع الذات ومع العالم .. مع الإشارة إلي وضوح اللغة الأدبية والفلسفية ومصطلحاتها التي تشكل جزء من ماهيتها وهي قضية حسمها كاتب الرواية كونه فيلسوفا أديبا يتقن احترام نقاء الوضوح الفلسفي مع التصوير الحسي للفكرة المجردة .. محافظا في ذات الوقت علي البعدين الفلسفي والجمالي في روايته وهو بهذه الرواية يثبت أن الأدب الروائي يمكن أن يؤدي دورا بارزا في نقل الفكر الفلسفي من إطاره الجامد الي متناول الناس .. ضمن سياقه الصحيح وإظهار قدرة الرواية الفلسفية علي تعزيز الوعي النقدي التنويري ونشره علي صعيد الفرد والمجتمع .. فكل الشكر والتقدير للأديب والفيلسوف الدكتور محمد المحجوب حيث تركنا ننتظر بشغف الجزء الثاني من الرواية .