د. عبدالسلام الحاج
إنها الانهزامية في أروع صورها ، و النكوص في أبلغ معانيه … أعرف أن من قرأ العنوان سيكون هذا انطباعه الأول ، و فكرته البكر عني وعن كل من ذهب مذهبي و رأى رأيي ، و هو محق في انطباعه ، و مُصيب في نظرته ، و له أن يتهمنا بكل التهم المباحة و غير المباحة ، لأننا انهزمنا أمام الباطل و ولينا الدُبُر ، و طأطأنا رؤوسنا أمام الرِعاع و شذاذ الآفاق ، وتركنا قيّمنا و أخلاقنا تُنتهك من قبل هؤلاء ( البصطاردية ) ، لا لشيء ، إلا لأننا آثرنا الدعة و استكنّا للمكوث مع القواعد من النساء ، وهن والله أفضل حالاً منّا ، فلا أحد يُدينهن و لا يلومهن ، و لسن مطالبات بشيء ، أما نحن فويل لنا من أنفسنا ومن لوم اللائمين ، نحن الذين رأينا الباطل باطلاً و دعونا الله أن يرزقنا اجتنابه ، و لم نسأله أن يعيننا على محاربته و القضاء عليه ، و ذلك ربما لأننا أوهمنا أنفسنا بأنه لا يمسنا و لا يعنينا ، و أن دورنا لا يتعدى رفضه في دواخلنا و نكرانه في ذواتنا ، و نحن بذلك نتبع الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم بتغيير المنكر في قلوبنا ، و لم نسأل أنفسنا عن مدى كفاية هذا الإنكار للباطل ، و هل تنصلح الأمور بهذا الإنكار ، و من هو المعني بالتغيير بلسانه أو بيده في مثل ما نحن فيه من ظروف ، حيث لا سلطة للدولة ، و لا وقع لسوط السلطان على جلود المُنحرفين عن كل القيم و الأعراف و القوانين ، و إلى متى ننتظر ذلك السلطان الآتي من وراء الشمس ليقيم فينا حدود الله.
أسئلة كثيرة تتداخل مع بعضها البعض و لا نجد لها إجابة ، أو بالأحرى لا نريد لها إجابة لأننا استمرأنا الباطل و أوضعنا في مراقده ، نحن الذين أطلقنا على أنفسنا نعوتاً ، ألفاظها تُسكرنا ومعانيها تطربنا ، فمنذ زمن كنا شعب صعيب عناده ، و اليوم شعب أبهر العالم ، و كم كنا نتيه زهواً و افتخاراً بأن من ليبيا يأتي الجديد ، و لم يدر بخلدنا أن ما فخرنا به ذات يوم لم يكن مجرد شعارات جوفاء ، فهي مفاهيم بلا ما صدق ، و لم يصدق منها إلا كوننا شعب شديد المراس ، نعاند كل شيء و في كل شيء ، حتى التحضر والرقيّ نحاربه بكل ما أوتينا من قوة ، فلا نرى بأساً في سرقة الكوابل ، و لا ضير في الزحف على الساحات و الأحزمة الخضراء ، و لا عيب في احتلال المباني العامة ، نحن الذين نخرق القانون بكل أريحية و خيلاء ، بل نفخر بذلك و نتباهى به ، فوصفنا المختلس بأنه ( خادم على راسه ) و المرتشي بأنه ( فالح ) ، نحن الذين نتجاوز إشارة المرور الحمراء بحجة أننا مشغولون و أنها تعطلنا.
في حقيقة الأمر نحن شعب لا يعمل منه إلا القلّة القليلة، و هؤلاء القلّة يقفون للإشارة ، خلاصة القول نحن الذين أبهرنا العالم بكل ما هو سيئ ، فنحن الذين لا نقيم وزناً لأي شيء فالأشياء في بلادنا مشاع ، نحن الذين نسوّغ لأنفسنا استباحة كل شيء ، فدمرنا الوطن باسم الحرية ، و انتهكنا الحرمات باسم الثورة ، و لم يجرؤ أحدُ منا على مجابهة المفسدين ، و لا حتى رفع صوته في وجه الأرجاس الذين عاثوا في الأرض فساداً ، و أهلكوا الحرث و النسل ، و لم نستطع حتى محاربة ثقافة الفساد ، فسادت أمثال ( أخطى راسي و قص ) و (بيت أمك ليا طاح خوذ منه عمود ) و ( رزق حكومة ربي يدومه ) و غيرها من الأفكار الهدامة التي تمثل المعقل الأخير الذي يحتمي به المفسدون و المعتذرون عنهم و لهم ، و نحن في غمرتنا نعمه مع العامهين ، و في سكرتنا نميد مع السكرانين ، و للأسف أصبحت سكرتنا هي القاعدة و إفاقتنا هي الاستثناء ، و لا يمكننا إلا أن نقول …. ليس بمقدورنا إلا أضعف الإيمان.