سلسلة أصحاب الكلام 1
طرابلس المدينة البيضاء ندخلها من باب الكلام عليها إرثا ثقافيا متكاملا بنيانا لحضارات سادت وبادت وظلت ملامحها وعمرت بالفنون والآداب وهي التي لقبت بالمدينة البيضاء أو طرابلس البيضاء منذ العهد الإسلامي ومع كل اكتشافات لرحالة جاؤوها من أقصى قارات العالم لاستكشافها والتعرف عليها حيث ذاع صيتها بما تملك من موروث وما تخفي من حضارات تحتها لم تكتشف بعد حتى عهدنا هذا , اشتهرت بلونها الأبيض ونظافتها .. من أصحاب الكلام عنها الرحالة التجاني يقول عنها : ولما توجهنا إلى طرابلس وأشرفنا عليها كاد بياضها مع شعاع الشمس يغشي الأبصار ، فعرفت صدق تسميتهم لها بالمدينة البيضاء فقد لقبت طرابلس بالمدينة البيضاء بسبب بياض جدران منازلها .
ذكرها العياشي بكلام ممتع لطارقها اليوم فقال : كان دخولنا لمدينة طرابلس قرب الظهر يوم الاربعاء سابع عشر رجب الفرد ، وهي مدينة مساقيها صغيرة ، وخيراتها كثيرة ، ونكايتها للعدد شهيرة ، ومأثرها جليلة ، ومعايبها قليلة ، أنيقة البناء فسيحة الفناء عالية الاسوار ، متناسبة الادوار ، واسعة طرقها ، سهل طروقها ، الى ما جمع لأهلها من زكاة الاوصاف وجميل الانصاف ، لاتكاد تسمع من واحد من أهلها لغواً الا سلاماً ، يبالغون في اكرامهم ، ولهذه المدينة بابان : باب الى البر وباب الى البحر ، لان البحر يحيط بكثير من جهاتها … “
وقال عنها الرحالة الألماني بارث : ” مدينة بيضاء جميلة ” ، والرحالة الألماني جوستاف ناختيجال : ” مدينة جدران منازلها بيضاء ، والشوارع نظيفة ومرصوفة وخالية من الأوساخ والمهملات ” أما الرحالة الإسباني باديا ليليك فقال عنها : طرابلس أجمل مدينة في ”مملكة المغرب ’’ .
قال عنها الرحالة الايطالي مانفريدو كامبيرو وصاحب مجلة المكتشف (( طرابلس بهيجة المنظر كما تبدو من البحر بنخيلها ومآذنها ومراكبها مما يبعث في النفس انطباعا حسنا عنها وشوارع طرابلس أنظف من شوارع تونس والاسكندرية والقاهرة))
وأسوق كلاما آخر عن مستكشفيها ومن زاروها وتعلموا وتتلمذوا فيها على يد شيوخها وقضاتها أمثال الأندلسي في تاجوراء وأحمد الزروق والبدوي والمنيذر وعبدالسلام الأسمري .. ابن سعيد عن طرابلس بقوله :” ومن شرقي جربة وجنوبها يتقهقر البحر الى الشمال ، حتى تكون مدينة طرابلس المشهورة عليه ، وفي شرقيها على مرحلتين جبل نفوسه ، وفيه مدن وعمائر وخلق كثير ومياه وخصب ، ومنه تمتار طرابلس أنواعاً من الخيرات حتى الخضر والفواكه ، وفيه الزيتون والتين والزبيب والتمر ، ويتصل به جبال الى ان ينقطع في شرقي مدينة لبدة الخراب واثار طرابلس من الرخام والحجارة الهرقلية تشهد بحالها المتقدم ، فاذا فارقت طرابلس مشرقاً لا تلقى مدينة فيها حمام الى ان تصل الى الاسكندرية “
وقد جاء أيضا في كتاب المسالك والممالك للبكري (( إن أهل طرابلس من أحسن خلق الله معاشرة وأجودهم معاملة وأبرهم بالغريب))
كما وردت أسطر مهمة عنها في كتاب نزهة المشتاق للإدريسي (( مدينة حسنة الشوارع متقنة الأسواق كثيرة الخيرات معروفة بمنتوجاتها ومصنوعاتها))
اليوم نراها ونتحدث عنها كإرث ثقافي أدبي وفني ومعماري .. عروس البحر طرابلس البيضاء .. و قال المؤرخون في كتبهم :
نشأت طرابلس في القرن السابع قبل الميلاد زمن الفينيقيين حيث فكانت محطة تجارية وسوقا لتصريف المواد الأولية من إفريقيا السوداء، واستمر دور هذه المدينة في مجال التبادل بين الشمال والجنوب، فامتد اتصالهم باتجاه الجنوب ليغطي مجموعة أقطار “إفريقيا” حتى بلاد السودان .. لم تكن مجرد معبر تجاري وحلقة وصل بل مقصد أيضا يعود تاريخ تسميتها إلى الإغريق .. أسموها ) تريبـولي _ أي المدن الثلاث) و قد عرفت المدينة باسم أويا _ أو أويات بيلات ماكار بمعنى بلدة الإله ملقارت الاله الحامي والمحسن و أصله من مدينة صور الفينيقية انتشرت عبادة بيلات ماكار أو ملقرت في قرطاج واشتهر بحماية المشاريع البحرية والمستوطنات وباعتبار قرطاج مستوطنة فينيقية انتشرت عبادة ملقرت هناك ممثلا للقرطاجيين على أنه الإله الحامي المحسن وهو مايفسر تعلق القرطاجيين به .. وقد اكتشفت عديد القبور الفينيقية والبونيقية في طرابلس واكتشف بها مصنع فينيقي لإنتاج الفخار في طرابلس الحضارات القديمة المتتابعة يعتقد علماء الآثار أن إجراء المزيد من الحفريات في (ويات) سيكشف عن عمق جذور الحضارة الفينيقية الكنعانية في التاريخ الليبي. فهذه كما ذكر كل الرحالة والمستكشفين ومن عبروا منها لمعالم أخرى شرقها أو غربها أو جنوبها أكدوا أن المدينة كانت دائما مبنية ومأهولة وبالتالي لم تتح الفرص لإجراء حفريات فيها على غرار الحفريات التي أجريت في صبراتة صبراتا ولبدة الكبرى.. ورغم هذا فإن الحضارة الفينيقية جلية في المدن الكبرى الثلاث ” لبدة الكبرى وويات وصبراتة.. والمتجول الباحث في ليبيا سيدرك أنها تعمقت أكثر في كافة أنحاء ليبيا والمعالم توضح ذلك .. كما يرى الباحثون أن اتجاهات أبواب قوس الامبراطور الروماني ماركوس أوريليوس تمثل اتجاهات المدينة الفينيقية القديمة التي أقيمت عليها مدينة رومانية.
” في العصر الروماني” حيث أقام الرومان منشآت رومانية لم يتبق منها سوى قوس النصر في البلدة القديمة ( المعروفه اليوم بالمدينة القديمة طرابلس ) والمعروف بقوس ماركوس أوريليوس نسبة لذلك الإمبراطور الروماني ، وفي ذلك العهد أيضا منحت المدينة درجة المستعمرة زمن (( تراجان(( أواخر القرن الأول الميلادي .. حتى عهد الإمبراطور (( انطونيوس بيوس )) في القرن الثاني للميلاد .. لتصبح ضمن إقليم طرابلس.
خضعت أيضا المدينة لحكم الوندال في القرن الخامس للميلاد وللحكم البيزنطي في القرن السادس ميلاديه .. خلال غزوات الوندال دمرت أسوار لبدة وصبراتة وازدادت أهميتها بعد أن كانت أويا هي الأقل أهمية بينهم فكانت نتيجة ذلك الدمار فيهما أن صعد نجم أويا ( طرابلس ) واستمر العمار فيها وعبر العصور لنهرف بمدينة الفن والأدب والحضارات المعمارية عراقة وتطور ومحاكاة
فن العمارة فيها .. وصاحب الكلام هنا هو ( د. عياد أبوبكر هاشم _ عضو هيئة التدريس بكلية الفنون والإعلام _ طرابلس وعبر مدونته المؤرخة لمستقبل العمارة والحرف الفنية في ليبيا _ والمعونة ” ميـــراث) كتب : بلغت هذه المدن الثلاثة في العصور القديمة مرحلة حضارية متقدمة ، ونضوجاً فنياً كبيراً متساوياً مع التطور الحضاري والتقدم الذي شهده العالم خلال الفترة الرومانية .. الآثار العظيمة لمدينة لبدة ذات الجدران الحجرية والطينية ، تكشف لنا عن مجمع معماري عريض يمثل ويشمل شوارع ذات أروقة ،وأعمدة، وساحات ، ومعابد ،وأقواس نصر، وتكشف لنا عن أروع وأكبر حمامات ذات أرضية مرصوفة بالفسيفساء، وجدران مكسوة بالرخام ، بالإضافة إلى التماثيل الجميلة المنحوتة من الرخام الناعم القوي الجميل .. مدينة صبراتة احتوت أيضاً آثار مهمة وضخمة مثل المسرح المدرج ،وأعمدة رخامية مزخرفة، ذات الطراز الكورنثي وشيد المسرح على نمط حمامات مدينة لبدة في القرن الثاني الميلادي .. والذي أعيد بناؤه سنة 1927 .. المدن الليبية القديمة بشكل عام تكونت من منشآت ومجمعات معمارية ضخمة واحتوت على فنون نحتية عظيمة إلى جانب التماثيل هناك النحت النار والنقوش الحجرية بالإضافة إلى الفسيفساء وتتشكل فيها زخارف متعددة الألوان تمشياً مع ما هو سائر من تقليد فني في تلك الفترة التاريخية في فنون المعمار والنحت في إيجاد مجموعة حلول وصيغ تصميمية وفي خلق أو ابتكار وتكوين نموذج فني معماري تركيبه ذي صلة وثيقة بين مختلف أنواع الفنون المختلفة .. هذا التقليد الفني استمر حتى العهود البيزنطية واستمرت المنشآت المعمارية جنباً إلى جنب مع الفنون العربية الإسلامية وتداخلت هذه الفنون في كثير من المواضع في المدينة. مع استمرار هذا التقدم الحضاري في أثناء الفترة العثمانية الأولى وما بعدها، أصبح للمدينة أهم مركز حضاري فني إلى جانب النشاط التجاري ونحوه فيها .
في جزئية أخرى جاء كلام الدكتور موضحا أن الفن المعماري لم يكن خبط عشواء بل دارسا حتى لحالة المناخ قبل بدء التنفيذ فكتب : في ظل الظروف المناخية حيث يغلب الحر في مدينة طرابلس ، وكما في بقية مدن شمال أفريقيا ، فإن التصميم البنائي المعماري يأخذ في الاعتبار كيفية ملائمة تقلّب وضع الشمس خلال ساعات النهار كي تتلقى كل أقسام المبنى الضوء والظل بالتناوب.
أما عن الموسيقى والغناء فهذا اللون من الفن في طرابلس ظهر أواخر القرن التاسع عشر مختلفا عن الغناء التقليدي والغناء الشعبي في كثير من مظاهره الفنية مما جعله يتمتع بشخصية متميزة انبعثت من أصول وثوابت شعرية وغنائية وإيقاعية قديمة في هذه المدينة ، انتقل لنا في غرب البلاد طرابلس والمدن المحيطة فن المالوف عبر الأزمان وكان شيخه في العصر الحديث الفنان ( حسن عريبي ) رحمه الله وتتابعت فرق كثيرة منبثقة عن فرقته الأم لفن الموشحات والمالوف أو شباب جدد في المدن المجاورة ينشط في الاحتفالات الدينية كميزة للمدينة .. وصاحب الكلام هنا عبر لقاء إذاعي معه سرد لنا التاريخ الفني الدكتور عبدالستار بشيه _ عضو هيئة التدريس بجامعة طرابلس _ قال : حافظ هذا اللون على أصالته طول مسيرته الفنية بفضل مجموعة من الفنانين الروّاد الذين التزموا بالحفاظ على الأصالة الكامنة فيه وعلى الشخصية الفنية المستقلة له ، ويعتمد الغناء الطرابلسي على نص عامّي يتكون من مذهب ومجموعة أبيات (كوبليهات) يدور حول الغزل والوصف والهجر فيلحن غالباً في أحد مقامات الموسيقا العربية المتداولة في ذلك الوقت مثل الرست والبياتي والحجاز والسيكاه ويؤدى على إيقاعات محلية مثل العتبي والفزاني والعلاّجي والبر ول بمصاحبة آلات التخت العربي، وكان لانتشار ظاهرة حفظ وترديد تراث الغناء العربي من قصائد وأدوار وموشحات وأغان مصرية وشامية في طرابلس أثر كبير في نشأة هذا اللون من الغناء وازدهاره، حيث اتجه عدد من الشباب المتحمس إلى تقليد هذا التراث ومحاكاته بإيجاد نمط من الغناء يتشابه معه في الشكل والمظهر ولكنه يختلف في المضمون ولكننا عندما نقول الفن في طرابلس لانتحدث عن الأغنية الشعبية ولا الغناء المتداول بين الفنانين المحدثين ولكن مباشرة إلى فن المآلوف .. أو نوبة المالوف وهي تراث غنائي عربي قديم نشأ في ربوع بلاد الأندلس ، ونزح منها إلى أقطار المغرب العربي ومن بينها ليبيا التي لجأ فيها لزوايا الطريقة العيساوية وأصبح من أهم تقاليدها الفنية ولازالت هذه الزوايا إلى يومنا، تعتبر المصدر الوحيد لنشر وأداء هذا التراث الغنائي التقليدي الرائع، ويتكون المالوف الليبي من أربع نوبات أساسية هي: نوبة المصدّر ونوبة المربّع ونوبة البرول ونوبة العلاّجي، وتلحّن مقاطع هذه النوبات التي تتكون في العادة من مجموعة من الأبيات الشعرية والزجلية والموشحات في مقامات الموسيقا الأندلسية كالرصد والحسين والأصبعين والنوا والمحيّر والأصبهان والماية والسيكا .
إنتهى الكلام عندي و من صاحبه كتابا أو حكيا أو مدونة إلكترونية حافظة مؤرخة حامية من ضياع المعنى المشمول به القيمة التي نلمسها تاريخيا أو علميا أو عمليا وفي قادم المقالات التي يسردها صاحب الكلام نقف عند لون آخر تزخر به بلادنا ونخاف عليه من الضياع إذا لم يعرفه أبناؤنا اليوم .
عفاف عبدالمحسن