الأديب – د. الصديق بودوارة
ما أحوجنا إلى نشر ثقافة النقد والتمعن، في زمنٍ أصبحنا فيه لا نتقن سوى ثقافة الكراهية بلا حدود
الرواية مخزون لا ينفد من حكايات البشر ، لأنها وببساطة متناهية سيرة البشر أنفسهم، فالرواية هي النمط الوحيد من الكتابة الذي ولد قبل أن تولد الكتابة ذاتها .. منذ الأزل ، وفي حكايات الخلق القديمة، كانت الرواية، رواية النشوء وانبعاث البذرة وقصة التكوين، إننا نعثر على عناصر رواية متكاملة ونحن نقرأ صراع الآلهة على قمة جبل الأوليمب مع عمالقة الشر الأزليين ، ونقرأ رواية عتيدة عندما نطالع الملاحم الشهيرة لجلجامش وهرقل، فالرواية ليست إلا ذاكرة للبشر، وسيرتهم قبل أن ينطقوا بأيّ حرف، ونحن لم نفعل أكثر من تنميق هذه السيرة وضخ المزيد من الأوجاع والهواجس في بدنها المتخم بكل شيء.
فلكي تكون لديك رواية، يجب أن يكون لديك وطن، هذا في العموم، ولكن، إذا أردت أن تكون “ليبيا” هي بيت القصيد، فيجب أن نعترف أن للرواية الليبية بذورا تعود إلى سنة 1961، وأنها تجسدت حية ترزق عبر أعمال روائيين مبدعين، لكن المثابرة كانت هي الفريضة الغائبة في معتقد الرواية الليبية.
كتب الروائيون الليبيون أعمالهم، لكن لا أحد منهم جعل كتابة الرواية مشروعا له ، قرأنا روايات ليبية ، لكننا لم نقرأ مشروعا روائيا ليبيا متكامل الأركان ، حتى أن روائيا مثل “أحمد إبراهيم الفقيه” بدا متدفقا في ثلاثيته الزاخرة، وتوقعنا ولادة أول مشروع روائي ليبي يسرد باتصال تاريخا متأججا لذهنية ليبية وخصوصية مجتمعية لهذا الوطن المترامي الأطراف، لكن هذا المشروع لم يكتمل، وعدنا نقرأ روايات متناثرة لأديب هنا وآخر هناك – وأنا منهم وأعترف بذلك – لم نتمكن من التأسيس لولادة “حنا مينا” ليبي ، يتمعن في تفاصيل الشارع الليبي بأزقته وبحارته ورعاته ومزارعيه وتجاره، ولا “نجيب محفوظ” ليبي يغوص في ملامح الشخصية الليبية بكل إيجابياتها وسلبياتها. فالرواية مطالبة برواية هذه الحياة فقط ، إما بالواقعية المغرقة ، أو بالرمز أو بالخيال ، وستكون رائعة لو مزجت كل هذا معا.
القارئ لا يجام ، ولا يرحم في إصدار حكمه النهائي، هو أيضا تصعب خديعته وتمرير حيلنا عليه ، إنه حساس جدا تجاه معرفته بصدق الروائي ومدى تفانيه في التعبير عن الفكرة، وإذا ما اكتشف زيف إحساس الروائي، فإنه لا يتأخر في نبذ الرواية وإسقاطها وجعلها مجرّد كتاب يعلوه الغبار على رف مكتبة.
قبل أن أكتب رواية “منساد” ثابرت على حضور جلسات معالجة الجن للكثير من الممسوسين، وتأملت بعناية إحساس البشر وهم يحملون في دواخلهم كائنات أخرى تختلف عن طبيعتهم تمام الاختلاف، لكنها تسكن معهم نفس الجسد تمعنت في ملامح وجوههم وهم تتوجع، وقسماتهم وهي تئن، وجلودهم وهي تتقلص وتتمدد بتأثير الألم والخوف والدهشة، وسمعت أصواتهم وهي تتغير وتتلون وتعلو وتهدأ .
أما رواية ” الكائنات ” بدأت كتابتها في ظروف صعبة تتعلق بوضع البلاد بأسرها، حيث انعدام الاستقرار النفسي والمكاني والمالي، كل شيء كان يضطرب من حولي وأنا أكتبها، لهذا طالت فترات التوقف، وتوالت محاولات العودة إلى كتابتها من جديد .. رواية تغوص في يوميات ليبيين يعانون متغيّرات مفاجئة أطاحت بالكثير من المفاهيم وغيّرت العديد من القناعات، وهي رواية تتنقل من الحاضر إلى الماضي لتقتبس منه ثمّ تغادره إلى مستقبل متخيّل وتعود منه إلى حاضر أبطالها إلى حد بعيد يتواجد الكاتب داخل شخصياته هذا صحيح إلى وأشهر الروائيين كتبوا أنفسهم في شخصيات رواياتهم بصدق وشفافية بالغين، ولو لم يصرحوا بذلك أحيانا، ولا يمكن للكاتب أن يتخلى عن ذاتيته بهذا الخصوص، فهو عندما يقرر كتابة رواية أو قصة، فإن شخصيته تتصدر المشهد أولا، وتتلبس أبرز شخصياته، وربما يبني عليها باقي هيكل الرواية .. أحيانا أخرى يلجأ الكاتب إلى شخصية أخرى يختزنها عقله الباطن ويكتم أسرارها، لكنه في روايته يفتح لها باب سجنه ، ويطلق لها العنان فتسرح وتمرح وتصول وتجول لتعبّر عن ذاتها وتصرخ كما شاء لها الصراخ.
أما كثرة التفاصيل في القصة فتحوّلها إلى منشور ممل بإمكان أي “باش كاتب” أن يملأ منه آلاف الصفحات .. ليس ثمة إبداع ولا موهبة في كتابة قصة مزدحمة بالتفاصيل التي نحفظها عن ظهر قلب ، آنذاك تتحوّل إلى كلام عابر يتلفظ به عابرون، وتتكفل بنشره الريح، بلا عمق، ولا غوص، لكن القصة إذا لم تكن فعل عمق وغوص وريادة فهي بلا معنى.
أعتقد أن الأحداث التي تمرّ بها منطقتنا العربية يمكنها خلق أسلوب جديد في الكتابة الروائية ومن المنطقي أن تفعل الأحداث فعلها في الأدب ، وتضع بصمتها على نمط الكتابة وأسلوب التناول .. شخصيا، أعتقد أن ما حدث هو زلزال حقيقي أطاح بالكثير من المسلمات، لكن أسوأ آثاره أنه أطاح بالدول في طريقه ، لا أقصد الأنظمة ولا الشخوص، لكني أعني أن ثمة معضلة في هذا الشأن .. الأنظمة التي كانت سائدة تشكلت على مقاس زعماء بعينهم، كل شيء كان مخلوقا بعناية لهم ومن أجلهم، وعندما سقطوا فجأة، سقط معهم كل شيء، المؤسسات والهياكل الإدارية، ومعها تهاوت الدولة بمفهوم سيطرة الكل على الأجزاء، تفتت كل شيء ، وعندما أراد الناس – بعد أن خبا وهج الثورة – أن يعودوا إلى جنة الدولة، وجدوا صعوبة في ذلك، لأن هذه المرحلة أنتجت شريحة شرسة ، أكثر شراسة من حكامها السابقين ، هذه الشريحة أصبحت على استعداد للتعامل مع الشيطان لكي لا تقوم الدولة من جديد، وها نحن نعاني مرارة هذه المرحلة .. بكل هذا الوجع، أعتقد أن الأدب سوف يتنفس مناخا مختلفا ليكتب من خلاله ما كان يختلف عن السائد بعد أن تهاوى الكثير من الثوابت ، ونحن بالانتظار .
شارك هذا الموضوع:
اكتشاف المزيد من المنصة الليبية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.