بقلم الناقد – عبداللطيف بشكار كوذيخه
يعد الشعر من الفنون الجميلة السّبع لارتباطه بالجمال والحس المرهف , وقد أولاه الفلاسفة والنقاد مكانة رفيعة لأثره العميق في الوجدان الإنساني ,وخلدته الحضارات على مر العصور على اختلاف وتنوع ثقافاتها , وأولته سموّاً وخصوصية حتى ظلت تلك النصوص صامدة إلى يومنا هذا , والشواهد على ذلك لا حصر لها أذكر منها ملحمة جلجامش البابلية وملحمتي الإلياذة والأوديسة اليونانيتين , ومعلقات الشعر العربي ، ونحت التاريخ الإنساني شخصيات الشعراء بمداد أبدي ظلت تتناقلها الأجيال مُخلّدة عبر كل العصور.
وأما العرب قبل الاسلام منذ أن كان يتناهى إليهم خبر ظهور شاعر جديد شق طريقه إلى حلبة القصيد تتزين الديار ويتحول الحدث إلى مناسبة بهيجة بإعلان بزوغ نجم شاعر في مهرجان حافل يعبرون فيه عن سعادتهم و وصف لنا ابن رشيق القيرواني في كتابه العمدة هذا الحدث بقوله: (( كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها وصنعت الأطعمة واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس))*، ما أردت الإشارة إليه أن ما نقوم به هو عرفٌ ليس بالجديد تكريما لولادة شاعر ملهم رسخ تجربته في الشعر العربي الليبي بجميع أنماطه العمودي والمرسل وقصيدة النثر فكانت تجربته رافدا أثرى المشهدية والذائقة الإنسانية.
شاعرنا المهدي الحمروني اعتزل القوم ردحا من الزمن في خلوته التأملية شأنه في ذلك شأن أهل التجلي والرجاء وعلى خطى المفكرين والفلاسفة والمبدعين ظل يغذي عقائر الالهام المستوطنة في كيانه الشعري والشعوري وقراءتنا له بمثابة إشهار إبداعي للشعرية العربية الجديدة المتوثبة وتعزيزا واستكمالا لبيانات الإبداع والمبدعين من الشعراء الذين فتحوا منفذا جديدا في الشعرية العربية المعاصرة، ويمثلهم بيان مقدمة الديوان الأول للشاعر اللبناني أنسي الحاج المعنون بـ “لن” 1960م تزامنا مع السجال الذي أضرمته مجلة “شعر” ويعد هذا البيان بمثابة الثورة الشعرية المتمردة الهادمة لقواعد الشعر العمودي، وولادة قصيدة النثر العربية، وممّا ورد في هذا البيان:((يجب أن أقول أيضًا إن قصيدة النثر ـ وهذا إيمان شخصي قد يبدو اعتباطيًّا ـ عمل شاعر ملعون، الملعون في جسده ووجدانه، الملعون يضيق بعالم نقي إنه لا يضطجع على إرث الماضي، إنه غاز، وحاجته إلى الحرية تفوق حاجة أي كان إلى الحرية، إنه يستبيح المحرمات ليتحرر)).
كان المنجز الشعري لأنسي الحاج مميزا وجديدا عند ذيوع مقدمته، ولم تصمد تجربته أمام تجارب مغايرة أتت بعده ربما تضمنت مقدمته وعيا جمالياً سابقاً لعصره لهذا ظلت تساؤلاته مطروحة.
وبمناسبة احتفائنا بتجربة الشاعر المهدي الحمروني أدعو إلى التئام ملتقى للأدب والنقد الأدبي والنقد الثقافي الفني تُطرح فيه قضايا النقد عامة والتحولات في المناهج والأدوات والإجراءات والمصطلحات النقدية لنواكب الراهن الثقافي والحضاري والأدبي المعاصر لأننا بتنا متشظين لا تجمعنا رابطة أو اتحاد للكتاب من خلاله ننسق جهودنا ونناقش هموم الكتاب والكتابة وهو ما تفرضه التحولات الكونية المتسارعة فالنقد الأدبي يتأثر بالتطورات والتغيرات الثقافية والحضارية التي يشهدها المحيط الاجتماعي لذا أؤكد على أننا في حاجة إلى تأسيس حالة نقدية جديدة تقترب من التحولات النوعية في نظرية الأدب ، وبالنظر المتفحص للحالة الإبداعية الليبية فإنها شهدت نبوغا ورقيا جمالياً لم تعد تتكئ على عكاكيز غريبة وخارجة عن بيئتها وكيانها الوطني فكفانا تبعية وتهميشا من الآخرين نمتلك أدوات الفن والإبداع وعلينا الثقة بنتاجاتنا وتجاربنا كليبيين وهذا ميدان الخلق والإبداع متاح للجميع عن لغة جديدة مختلفة عما هو سائد شكلًا ومضمونًا ، قفزة طموحة، تؤثث لشعرية معاصرة تختزل هذا الكم المهول من التجارب والخطابات الشعرية المتلاطمة، وتعيد للمتلقي ثقته في الإبداع والمبدعين، وتؤسس تاريخًا جديدًا للتلقي بمفهومه الاجتماعي والنفسي.
ومن أهم التساؤلات الجدلية المطروحة هو تجنيس قصيدة النثر العربية شعريًّا على الرغم من حضورها كنص رسّخ معالمه الجمالية عند نُخب مثقفة عريقة لكن قاعدتها لا تزال في طور التكوين، فلا تبهرنا الأعداد اللامتناهية ممن يكتبونها ولا الأكداس المتراكمة في المكتبات ودور النشر، فما تقبلت ذائقة المتلقي العربي وأربكته سوى طلائع من تلك التدافعات العشوائية، ويظلُّ السؤال منتصبًا : ما هو المدى الذي حققته شرعية قصيدة النثر ونعود من حيث انطلقنا ونكرر التساؤلات: ما الكتابة؟ ولماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ وأجزم أن كل نتاج إبداعي لا وجود له ما لم يتناوله ويتقبله متلقيه المعاصر له ويفك شفراته ويفتح سجله النصي مترجما استراتيجياته التي أطرها؛ ليؤسس تاريخيته ومعاصرته وأما تلقينا لنصوص من العهود الغابرة فهو ناتج من ذيوعها في حقبها التاريخية التي عاصرتها ولولا ذلك لما وصلت إلينا لنحاول تلقيها بمفاهيمنا المعاصرة.
إن التغيرات الحضارية الكبرى يصنعها بشر مختلفون يتمتعون بشجاعة كافية تدفع بمجتمعاتهم إلى مواقع الرقي والازدهار وهذا لا يتأتى إلا بتكاتف وشحذ العقول النيرة المخلصة لتحقيق هذه التطلعات والأهداف السامية.
وعلى خُطى روادنا الأوائل الذين أشعلوا فتيل ثورة الحداثة الشعرية العربية، وتعزيزا لما أرساه السياب ونازك الملائكة، ثمّ خطوة مجلة “شعر” بربانها علي أحمد سعيد “أدونيس” وبصحبته “يوسف الخال” وعلى ذلك تقدًّم رفيقهم “أنسي الحاج” وأعلن بيانه التاريخي الشعري في ديوانه : “لن” ، كانت تلك الصرخة من المشرق، وعززها في الجناح الغربي صوت المبدع الرائد والمفكر: “محمد بنيس” نبادر نحن جماعة إبداع وتجلي الليبية إلى الدعوة إلى عقد ملتقى أدبي ونقدي يتدارسون ويقيمون من خلاله مجترحات التجارب الشعرية الحداثية المستنيرة ووضع بنود تفصح عن طبيعة قصيدة النثر العربية وما هي الصيغة أو الاشتراطات الأدبية والشعرية التي يجب أن تقنعنا بها تلك التجارب النصية ، بعد مرور ثلاثة وستين عامًا أي أكثر من نصف قرن على صدوره، انطلاقًا من إحساسنا بأن الشعرية العربية في حاجة إلى قفزة جديدة تصحح وتستكمل ما أسسه الآباء. وندعو كل الشعراء والنقاد وكل أصحاب الرؤى للانضمام لهذه الصرخة الجمالية.
وننتهز السانحة بتقديم نتاج شعرية معاصرة لشاعر ليبي، كان صوته مختلفا في هذا الطوفان الحداثوي، وقراءتنا للحمروني هي قراءة رمزية لكل شاعر عربي استطاع أن ينفلت من فوضى العبث المتلاطم بقصيدة جديدة، ربما لا أبالغ بالقول بأننا سنحتفل بتسمية مختلفة للقصيدة العربية، قصيدة أبهرتنا بمحتوى نصي جديد وتعبير مغاير، لا ينفصل عن تسلسلات مرجعياته اللغوية العربية، والشكل لا يمثل تكوينًا جامدًا منفصلًا عن محتواه، وإنما كينونة تضج بعوالم حية خصبة دائمة الحركة.
تجربة الحمروني تنأى عن الصِّراعات والصَّرعات، وتحتكم إلى زمن لغوي ظلَّ نسيًا منسيّا، فأحياه بعصرية مدهشة، بآليات شعرية خلقت وجودها الفني من وراء اللغات، وهو ما يؤيد أن الشاعر يخلق معجمه اللغوي بحدسه الذاتي، إذا تحققت له الشعرية التي تقود المتلقي إلى المتعة واللذة، ومن ثمَّ تتكشف الجماليات النصية، ويبدو هذا صارخًا في نصوصه التي تميزت بخصوصية جاذبة ومغرية للمتلقي ، فشعره مسكون بنداء التواصل مع الآخر، وهاجس الاختلاف، يسعى إلى تحقيق وعيه الجديد في الكون والوجود، محاولًا إعادة عجلة الزمن الذي عرقلته مصدَّات التقليد، وإن نحا في بعض الأحيان إلى الماضي لكن مقومات الحاضر والمستقبل مستوطنة في شعوره، إنه يعي الحاضر وذاته والكون.
غمرني ارتواء التلقي هي : علامة الرضا أقولها عندما يُدهشني شاعر ليبي بنصوصه الحداثية المبهرة، فالقصيدة تتمتع بوحدة عضوية تتنامى في سياق منتظم، ويميزها طول النفس المقطعي، وسعة الخيال، كأسطورة تتموقع دوالها طاغية على إدراك التلقي، مُسَطِّرَة استراتيجيتها الجمالية بسجل نصيٍّ حافلٍ، لكأنها كينونة لمجرة معرفية جديدة تم كشفها، صور تتوالد بزفر سيميائي يجر عربات من دوال متناحرة، تخبو واحدة إذ تتخلق صورة جديدة، مشهدٌ سينمائي محوره التأنيث في رحاب ابن عربي، المكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه، جماليات لا أقاليم لها، ولا أبالغ إذ أقول بأن المهدي الحمروني سيكون له شأن في الشعرية الحداثية لغرابته واختلافه، وتلك سمة الذين ليسوا كغيرهم، تلك العلاقة التي تشرع أبوابَ التهور الجميل. وتتوجب الإشارة إلى أن الشاعرالعربي يظلُّ تلاحقه تساؤلات وهواجس لا حصر لها في مسيرته الإبداعية يودُّ أن يطرح كل شيء في شعره بحرية مطلقة، وهو جزء من هذا النسيج المحكم المتأهب إلى الانعتاق، راسمًا الحرية الاجتماعية والفكرية بكلمات قلقة كحياته، مُحَمّلًا بأعباء ثقيلة في مقدمتها كيفية طرح إبداع عربي الأرومة متحررًا من كل مؤثرات غريبة عنه، وابتكار صور جديدة للحياة دائمة التجدد، وبالمقابل يجابه في الداخل طواطم توطن رِدّة اتباعية تشدُّه إلى الوراء، وتعزله عن حركة التاريخ تتجسد هذه النمطية الاتباعية الكلاسيكية في مظاهر واسعة إلى حدٍّ كبير في حياة العرب، وهذا ينافي حالة الكشف التي يحققها الإبداع؛ لأنه يُعرِّي غاياتها التي تسعى دائمًا إلى إخفائها؛ لهذا تتصدى للمبدعين وتلفق لهم التهم، وتعمل على نفيهم من المجتمع لتخلو لها الساحات، ويتعطل الفكر والنقد والإبداع، وتنعدم كل محاولة جريئة للإبداع الشخصي وتخنق الحريات وقد خلص الفكر النقدي الإنساني إلى أن تاريخ الأدب والشعر الحقيقي هو تاريخ تلقياته المتوالية حيث يقدم الشاعر نتاجه الجديد المتصف بالغرابة والصانع للدهشة وصدمة التلقي والتي تستفزه ليعيد بناء أفق تلقيه من جديد، ويتماهى مع جماليات الفن والإبداع، ومن هنا تكتب القصيدة تاريخًا جديدًا للشاعر والشعرية. “مهديٌّ غير منتظر” هي عتبة العنوان لهذا الديوان، والمصراع الرئيس الذي يستقبل المتلقي عنوانًا مستفزًّا ملفتًا متناصًّا مع عرفٍ فقهي في الثقافة الإسلامية في ظاهره لكنه يؤسس أفقًا مغايرًا لما ترسخ لدى المتلقين؛ لأنه ينصب مرتكزًا استراتيجيًّا نصيًّا يجبر القارئ بفضول وإلحاح على تفسير قصدية الشاعر للغرض الظاهراتي من وراء هذه العتبة، فيستدرجه إلى قراءة الديوان. يقدِّمُ الشاعر هذه العتبة متماهيًا مع اسمه الشخصي “المهدي “بصفته الشعرية معلنًا اقتراح تجربة نصية غير منتظرة، أداته فيها اللغة التي يسخرها بسعة مخيلته المضيئة مولِّدًا صوره الشعرية الموكولة بظاهرة إيحائية متسلسلة المشاهد، تتجاوز المألوف في اتساق لغوي محكم بسلاسة وتوافق بين الشكل الظاهر لتأويل المعاني اللامتناهية، يفجر الكتل اللغوية لِتتولدّ شعرية نابضة من غيض لكأنها تنساب من معين لا ينضب ، تنمّ عن استعداد فطري تكويني لديه، في جمل تثير حفيظة التأمل، وتعرض تساؤلات القصيدة من معجم لغوي ينحت مفردته بخصوصية فارقة تُوائم السياق الحداثي المعاصر بهذه المعطيات، والتعرجات الفارقة يُنجِزُ “المهدي” نتاجًا شعريا عربيًّا جديدًا يمكنني سحبه إلى المفهوم الظاهراتي حيث تمتزج فيه شفرات الدلالة بين الشعور والروح، وبين العقل والواقع، تحلق في فضاءات لا متناهية المعاني، لا تعترف بالمطلق، غرضها الولوج إلى أنوية الجمال التي تُقَدِّسُ ذاتية المبدع والمتلقي معًا بوعي حدسي لا يَكِلُّ .
أخيرا علينا أن نضع توسيما لهذا الحدث ونختم حليتنا التي نصيغها بقولنا أننا لا نريد أن تتوقف هذه الفعاليات الثقافية الهامة عند ظاهرتها الإحتفائية وأن نكتفي بعبارات التكريم والتهليل بل نعمل على استمرارها وتيسر وصول أثرها في المتلقي لنمهد السبيل لمستقبل مشرق لأبنائنا