للقاص – يوسف محمد بالريش
المشهد الأول : في مدينة السلام .
امتداد الأرض البهية اللانهائي يزدان بنور الربيع المبرقش بالألوان الذي يحيل الفسيفساء اللونية ذات الأخضرار المحتوي للزمان والمكان .. اللوحة مرسومة بالحب والخير والنماء .. الفلاحون يجهزون أحواض شجر اللوز والزيتون والرمان والنخيل باسق الطلع وخلايا النحل تتقاطر العسل الزعتري والربيعي والجبلي .. ثغاء الشياه وزقزقة العصافير يعزف نغم التسبيح لله والفرح بالموطن …
البحر المشاطيء للمراعي الخضراء والمزارع البهية يزدان بلونه المزرق وسميكاته الفرحة وأسماكه الوادعة ومراكب الصيد تدرعه جيئة وذهابا لتعب من خيره الوفير .. شموخه من الرواسي التي تحتضن حياته وتشمخ بها وفوقها كتب الأطفال (( المعرفة حق طبيعي .. نحن الأعظم نحن نؤمن بالله )) .
المشهد الأول الموازي : دولة الحرب .
مربعات سوداء تسيج بقع خضــراء
من عشب رمادي اللــون والفعــل …
مرابض طائرات وآليات عسكرية لخدمة النعوش الطائرة القاذفة .. السماء يشوبها لون رمادي والهواء تخنقه أبخرة الطائرات .. أرقام كتبت على النعوش وكتبت على ممرات الهبوط والإقلاع وصارت رمزا لكل شيء حتى الإنسان في هذه الدولة التي تبني الطائرات وتعبئها بأطنان البارود لذلك صار اسم كل طائرة ” نعش طائر ” وفوق أسوار القاعدة العسكرية كتب عسكري مهزوم عبارة ” دعه يعمل .. نحن الأقوى .. نحن نثق في الله ” .
المشهد الثاني : في مدينة السلام .
أفلت الشمس وازدانت السماء بالنجوم وضوء القمر وهجع الناس إلى مضاجعهم فساد الهدوء والاطمئنان .. الشوارع المضاءة بلون متوهج بالحب وساد السلام مدينة السلام وفوق تلة مرتفعة انتصب مدفع مضاد للطائرات يمارس نوبة الحراسة الروتينية يربض فوقه العريف عبدالقادر
المشهد الثاني الموازي : في دولة الحرب .
آمر القاعدة العسكرية ذات المربعات السوداء استقل سيارته العسكرية نحو غرفة قيادة العمليات وحين وصلها دلف إلى صالة اجتماعات .. الطيارون قاموا بأداء التحية فردها عليهم واتجه صوب خريطة العالم .
وأشار بعصاه إلى موقع مدينة السلام وقال :
_ هذا هو هدفنا طرابلس وبنغازي .. لابد لكم أن تنتصروا لكي نمحو العار الذي ألحقه بنا ( الرايس ) مراد وجماعته حينما ساد بأسطوله البحر .. هل من استفسار ؟
رفع طيار يده فقال له الآمر :
_ تفضل
_ رد الضابط وهو يتحسس خوذته إلى جنبه قائلا : لماذا نقصفهم بهذه الأطنان ؟
_ إحمر وجه الآمر وارتعشت أطرافه وشفته العليا وقد أحس بصدمة السؤال : لأنك ستقبض ثمن العملية الآن ..
وبحركة سريعة من يده .. أشار إلى ضابط بجانبه فأحضر حقيبة على الفور وفتحها فكانت مليئة برزم النقود التي كتب عليها عبارة ( نحن نثق في الله ) .
المشهد الثالث : في مدينة السلام .
النعوش الطائرة تغطي سماء مدينة السلام على ارتفاع منخفض وقد أثارت محركاتها أزيزا مزعجا أيقظ الناس والعصافير وامتلأت المدينة بالغبار .. العريف عبدالقادر أسرع بكل قوته نحو رفيقه ( م ط ) ووجه صوب النعوش الطائرة وهلل _ الله أكبر .. الله أكبر .
ثم أرسل شعاعا نورانيا من قذائف مضاد الطائرات وماهي إلا لحظات حتى بدأت النعوش تتهاوى .. حين أشرقت الشمس بدفئها نزل إلى شاطيء البحر فتوضأ بمياهه باشر صلاة الصبح وحينما أفشى السلام على الملاك الأيسر .. لمح خوذة تطفو فوق سطح اليم فقام نحوها مسرعا وقد أعد مسدسه لمواجهة احتمال مواجهة أخرى .. لكن الجثة التي كانت تحملها الخوذة كان الموج يتقاذفها حتى أوصلها تحت قدمي العريف عبدالقادر .. تأمل الوجه بشعا كان مهترئا بفعل هجوم الأسماك وميتا تكتسيه صفرة الموت .. انحنى عبدالقادر وحمل الجثة ثم وضعها على الشاطيء الرملي .. أزال الخوذة ومد يده نحو جيب الرجل ليلتقط منه اللوحة الرقمية المسماة باسمه فوجد الجيب منتفخا وحين فتحه وجد به رزمة أوراق نقدية كتب عليها ( نحن نثق في الله ) ..
غطى الجثة بدثاره واتجه نحو صخرة مشاطئة وكتب عليها 16.4.1986 ف .
________________
الخوذة | عن المجموعة القصصية _ الشمس والدفء | منشورات مجلس الثقافة العام 2008 .