الأخبار الشاملة والحقيقة الكاملة​

2025-01-04

10:46 صباحًا

أهم اللأخبار

2025-01-04 10:46 صباحًا

المقــبــــرة

أحمد محمد العنيزي

قصة قصيرة- للأديب الراحل . أحمد محمد العنيزي

تقع مقبرة سيدي خريبيش على مرتفع صخري يطل على شاطئ البحر ويعد أعلى موقع في المدينة , تتوسطه بناية عالية تشبه البرج وهي تستعمل خزاناً للمياه وتعلوها منارة خاصة بإرشاد السفن , تظل تضيء وتنطفي طوال الليل باستمرار وتحيط بهذه البناية أضرحة الأولياء الثلاثة الشهيرة التي تؤمها النساء في أيام الجمع , حيث تفتح أبواب المقبرة للزيارة..ومن هذه المقبرة العالية كانت المدينة تبدو وكأنها شبه جزيرة يحيطها البحر شمالاً ومستنقعات السلماني وجليانة جنوباً وغرباً , وتبرز معالمها التي تجمع بين القديم والحديث في عدم اتساق..معالمها المتمثلة في المسجد العتيق بقبته الخضراء ومئذنته القصيرة ومسجد ابي قلاز بقبته البيضاء ومئذنته الصغيرة , ثم الكاثدرائية الضخمة ذات القبتين الكبيرتين وبقية المقابر المنتشرة هنا وهناك..وعندما كنا صغاراً اعتدنا أن نجتمع كل أصيل في زقاق خريبيش ثم نتسلق جدران المقبرة المنخفضة ونقفز إلى داخلها , حيث نتجه إلى الخربة الشرقية وهي ساحة صغيرة خالية من القبور كنا نتخذها ملعباً لكرة الشخشير وغيرها من الألعاب التي كنا نمارسها أيام الطفولة , إذ كانت مدينتنا خالية من ساحات اللعب…ورغم أننا كنا حفاة فإننا لم نكن نعبأ بشظايا الزجاج والأحجار المدببة وعلب الطماطم الفارغة ذات الأطراف التي تشبه حدى الموس , وكل القاذورات التي يلقيها سكان البيوت الملاصقة للمقبرة في تلك الخربة..كنا نلعب أحيانا إلى وقت متأخر وإذا حدث أن جرحت قدم أجدنا كان يبول عليها ويستأنف اللعب..كان البول يعد مطهراً للجروح وبلسماً شافياً لها كما كنا نعتقد أيام الطفولة .

وفي أيام الربيع حيث كانت المقبرة تكتسي حلة خضراء سندسية من النبتات البرية المختلفة وتتوسطها أزهار عباد الشمس بلونها الأصفر الفاقع..كنا نحتفل بالربيع على عادتنا فتعد لنا العمة آمنة جارتنا خيوط الربيع وهي خيوط من الصوف الملون كان تقوم بفتلها وتضع لكل منا خيطاً في رقبته على هيئة عقد بعد أن توصينا بأن لا نصطاد طيور (إمبسيسي) لأنها من طيور الجنة وصيدها حرام وأن من يصطادها يدخل النار..ثم تعد لنا امهاتنا بيضاً مسلوقاً يصبغنه بألوان حمراء وخضراء وإذا لم يجدن ثمن الصباغ كن يطبخن معه قشور البصل الحويل فيصبح لون البض قاتماً , وعند ذلك نذهب إلى المقبرة حيث نجلس على الدكة أمام ضريح سيدي غازي نتبارى في نقر البيض ببعضه ومن تنكسر بيضته يتنازل لصاحب البيضة الصلبة , ثم يتوسط الحاضرون بين المتبارين ويرجعون البضة المهشمة إلى صاحبها ويأكل كل واحد بيضته ثم ننطلق وراء أسراب الفراشات الملونة, وصدى ضحكاتنا يدوي أعماق المقبرة الساكنة .

فإذا حل الصيف ارتفعت الحرارة في أيامه الفائضة , خرجت الزواحف والحشرات من جحورها وظلت تجوس بين أشجار الصبار الكثيفة وأعواد النبتات والأعشاب اليابسة , وكنا نعمد إلى مطاردتها بين المقابر فنجري خلف الأبراص والخنافس والعقارب الصغيرة ونرميها بالحجارة في فظاظة بالغة حتى نجهز عليها.. أما أسراب النمل فلم نكن نعمد إلى إيذائها لاسيما إذ وجدناها قريبة من اضرحة الأولياء..لأننا كنا نشق عليها ونبتهج لمرآها وهي تقوم بجمع مؤونة الشتاء وتكدح في إصرار لتخزينها ومواجهة قسوة الشتاء بها .

وإذا جرى الخريف وهبت الرياح الشمالية الباردة حلت بالمقبرة أسراب السمان التي كنا نجدها تحط على الأسلاك والأعمدة الممتدة على طول جدران المقبرة , فنعمد إلى رميها بالحجارة الدقيقة بواسطة (المقاليع) وكانت طيور السمان تفر هاربة عبر المقبرة الشاسعة وتحط على الأعمدة البعيدة ونظل نجري خلفها حتى يدركنا التعب ونعود نجر أرجلنا في إعياء..أما الشتاء , فقد كان هو الفصل الوحيد الذي يجبرنا على ترك اللعب في تلك المقبرة المهجورة لعدم وجود أماكن نحتمي بها من المطر والرياح العاصفة , ولهذا كنا نضطر إلى الابتعاد عن أماكن لهونا المفضلة مرغمين .

كانت هذه حالتنا على مدار العام وتعاقب الفصول وكلما حل الشتاء بزمهريره وحال بيننا وبين اللعب في المقبرة أحزننا ذلك وظللنا نتطلع بشوق إلى شمس الربيع وزهوره .

وذات يوم وبينما كنا نستعد لاستقبال الربيع كعادتنا إذ حل بالمقبرة رجل غريب رأيناه عند الأصيل يقف أمام ضريح سيدي جمعة القائم في أعلى مكان في المقبرة , كان كهلاً نحيفاً طويل القامة يرتدي جبة مغربية فضفاضة وعمامة بيضاء يلفها حول رأسه وذقنه , وتبرز منها لحيته السوداء الكثة..كان يقف منصباً بين المقابر العثمانية ذات الشواهد المرمرية العالية , ويبدو وكأنه أحد الموتى قد خرج من القبر بكفنه كان يمسك بيده سبحة..وذكرنا منظره ونحن ونحن نطل من وراء جدران المقبرة بما كان أهلنا يحدثونا عنه ذكرنا بصورة عالقة بأفكارنا منذ بدأنا ندب على سطح الأرض ونخرج إلى الشوارع..صورة (الزعلوك) الذي يخطف الأطفال الذين لهم أختام في كف أيديهم ثم يقوم بذبحهم كقرابين على (المطالب) الكنوز الموجودة في المقابر , والتي لا تنفتح إلا إذا أهرق على أعتابها دم طفل يحمل في كف يده شارة الخاتم كان أجدادنا يحذروننا ويقولون إن (الزعاليك) لا هم لهم إلا البحث عن الكنوز المخبأة في باطن الارض وحرق البخور وتلاوة الطلاسم والرموز وتسخير الجن في الوصول إلى الكنوز واستخراج الذهب من أعماقها , وظللنا نتفرس في أكف أيدينا لنرى إن كانت بها علامة الخاتم التي يبحث عنها (الزعاليك) فإذا قيل لأحدنا على سبيل المزاح يدك بها خاتم أنخلع من شدة الفزع .

كانت ثمة أفكار موروثة تسيطر على مشاعرنا , أفكار تتمثل في الخرافات كنا نسمعها من أجدادنا عن الزعاليك وأعمالهم الخارقة..وكانت هذه الأفكار هي التي بعثت في قلوبنا الصغيرة الخوف, وزاد من حدة تأثيرها في نفوسنا الصمت المطبق الذي ران علينا ذلك اليوم ونحن نرهف السمع ونحدق في ذلك الغريب من وراء جدران المقبرة .. واخذ ظلام الغروب يتكاثف وبدأ الرجل الغريب يتحول إلى شبح يقف منصباً دون حراك وسط سكون المقبرة المظلمة ..ومرت قطة سوداء وهي تقفز على سطح أحد البيوت المجاورة للمقبرة وبحركة لا إرادية قفزنا بسرعة من جدار المقبرة إلى الشارع وانطلقنا نركض عبر الشوارع الخلفية من شدة الهلع حتى وصلنا بيوتنا لاهثين..وكانت أحلامنا تلك الليلة كلها مزعجة ..ولم نعد إلى الاقتراب من المقبرة حتى جاء يوم الجمعة وحضر سي عبد الله الخفير وقام بفتح أبوابها للزيارة المعتادة..واقتربنا منه بذر وتوجس وسألناه :

– سي عبد الله وين الزعلوك اللي كان في الجبانة ؟

– وضحك سي عبد الله وهو يضغط على طاقيته الحمراء حتى تصل إلى أذنيه كعادته وأجاب :

– -هذا مش زعلوك , مروكي ماشي لبر الحجاج.

– ليش يقعد في الجبانة ؟

– ماهو معندش وين ايبات مسكين .

– عدا والا مازال قاعد .

– عدا..عدا..سافر للحج على كرعيه.

– ماهو الحج بعيد يا سي عبدالله.

– سافر وخلاص كان تفهموا .

واستدار سي عبد الله ومضى إلى داخل المقبرة في خطى بطيئة وبيده السلاسل والأقفال التي يستعملها في قفل الأبواب .

وتطلعنا إلى ساحة اللعب المعتادة , فرأينا سرباً من طيور (إمبسيسي) تحط على أغصان أشجار (الطرفاية) العتيقة .

شارك المقالات:

مواقيت الصلاة

حالة الطقس

حاسبة العملة