علي فهمي خشيم .. عروبة خالصة
هل من مشكك أنه أكثر من أديب مبدع .. بل هو مفكر عربي وناقد أدبي ولغوي ليبي ، ولد في مدينة مصراته العام 1936 من أصول شركسية لكنه عروبي خالص عشق اللغة حتى تعمق فيها فلسفيا ، درس اللغة متعمقا متفحصا باحثا بنهم وشغف في آن .. وبعد دراسات مستفيضة تبين له .. أن وحدة العرب كانت وحدة تاريخية ضاربة في عمق التاريخ؛ وقد عبّر عن ذلك من خلال رواية تاريخية هي “إينارو” استوحاها من وحدة عرب مصر وعرب ليبيا في مقاومة الاحتلال الفارسي لوادي النيل في القرن الخامس قبل الميلاد.
خشيم مع كل التقدير لمكانته عندي وكل من تتلمذ عليه .. درس الفلسفة في الجامعة الليبية ببنغازي ثم تابع دراسته العليا في جامعة عين شمس بالقاهرة وأتمها بالدكتوراه من جامعة ديرام في بريطانيا العام 1971. اشتغل في الجامعة الليبية ببنغازي ثم انتقل للتدريس في جامعة الفاتح بطرابلس ، وتدرج في الوظائف فيها وشغل العديد من المناصب والمهام إلى أن توفي في مدينة هامبورغ بألمانيا عام 2011.
أسهم المفكر علي فهمي خشيم في تأسيس وإصدار مجالات فكرية وأدبية عديدة ، فقد أسس مجلة “الفصول الأربعة” ومجلة “أفكار” وصحيفة “الأسبوع الثقافي”، كما شارك في تحرير مجلة “الوحدة المغربية” والعديد من المجلات الليبية، مثل: “الحكمة”، “لا”، “المشهد”، فضلاً عن أنه رأس تحرير حولية “مجمع اللغة العربية الليبي”. كذلك كان عضواً في هيئة أمناء المجلس القومي للثقافة العربية، ومقره الرباط في المغرب العربي، كما كان عضواً مؤسساً للمركز العربي للدراسات التاريخية في طرابلس، وعضو اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية وعضو لجنة المعجم التاريخي للّغة العربية .. كتب عنه الأديب إبراهيم درويش واصفا إياه :
المثقف الليبي علي فهمي خشيم: رحلة في تاريخ الكلمات وأصول اللغة والحلم العربي
أديبنا العلامة من الباحثين المهتمين بمقارنة اللغات ويؤمن باصالة اللغات العالمية وعلاقتها النسبية بمجموعة اللغات العروبية التي تضم المصرية والليبية والكنعانية وغيرها .. كان المشروع الفكري الأساس لخشيم يتمثل في إلغاء عوامل الفرقة بين العرب، أي بين العرب بعضهم ببعض، من حيث الاختلافات القومية الجغرافية ، وكان أيضاً يتمثل في إلغاء عوامل الفرقة بين العرب والعالم ، من جهة الاختلاف الثقافي واللغوي .. ، عَبّر خشيم عن وحدة العرب التاريخية من خلال كتابيه “بحثاً عن فرعون العرب” و”آلهة مصر العربية”، إذ قام بدراسة موسعة للدين واللغة والثقافة في الكتاب الأخير، وذلك كي يثبت عروبة مصر ويدلل عليها. كما رفض فكرة اللغة الهيروغليفية المصرية في كتابه “القبطية العربية”، واستخدم المنهج التحليلي المقارن لإثبات مقاصده وتدعيم حججه ، إذ عدّ الهيروغليفية فناً للكتابة وليست لغة ، وقد سعى لإثبات ذلك من خلال شواهد وأمثلة استمدها من القواعد والتصريف اللغوي، وأسس بذلك للمقارنة اللغوية بين الكلمات التي تشير إلى مضمون مماثل، كأسماء الأعداد وأفراد الأسرة ونحو ذلك من أسماء تشير إلى أمور واقعية موجودة وجوداً حسياً، وقارنها باللغات العربية القديمة .. مما أفادنا به في كتبه وسرده عبر لقاءات وبرامج إذاعية بعضها أعدها وقدمها هو في اللغة والتأرخة وغيرها كان فيها ضيفا كريما ينهل المتابع له كل جديد مفيد فيما يقول استقيت :
ويبدو أنّ كلمة (أريبو أو عريبو) من أصل أفرو – آسيوي مشترك، فقد استخدم الآشوريين نفس الكلمة للإشارة لسكان بادية الشّام القاطنين غرب آشور، ومن هنا وُلد مصطلح عرب، وهو تصحيف لكلمة (عريبو) وتعني الغرب في اللغة الآشوريَّة.
الجدير بالذكر أنّ أول ذكر لكلمة (عرب) في التّاريخ يعود لسنة 853 ق.م، وذلك في نص آشوريّ منقوش على مسلة حجريَّة تسمَّى “حجر كُرخ”، وهي محفوظة اليوم في المتحف البريطانيّ بلندن، في هذا النّص يوثّق الملك الآشوري شلمناصر الثَّالث انتصاره في معركة قرقر على تحالف ملوك (غرب الفرات)، ومن بين هؤلاء الملوك الملك جُندب العربيّ الذي شارك في المعركة بألف جمل يركبه ألف مقاتل.
انتهى خشيم إلى إثبات أن لغات الوطن العربي، من بابلية وأكادية وآشورية وسريانية وقبطية ونوبية وحبشية وأمازيغية وما إلى ذلك، هي لهجات للغة العربية على نحو مماثل للهجات الأقوام العربية التي تسكن في مناطق مختلفة من العالم العربي اليوم، كالفرق بين اللهجة السورية واللهجة المغاربية، على سبيل المثال؛ واكتشف كذلك أنه كلما ابتعدت المناطق جغرافياً بعضها عن بعض أصبح إدراك التشابه في اللغة أكثر صعوبة. فمن السهل عقد مقارنة بين لهجة أهل ليبيا وتونس مثلاً، بينما الأمر يصبح أكثر صعوبة عن عقد مقارنة لغوية بين لهجة العراق والمغرب، وهكذا دواليك.
وفي هذا السياق، سعى خشيم إلى تأكيد عروبة الأمازيغ في كتابه “سفر العرب الأمازيغ” من خلال بحث مفصل عن عروبة اللغة الأمازيغية، وقام بتأكيد هذه المساعي في كتابه “لسان العرب الأمازيغ”، وهو معجم عربي-بربري مقارن، وكذلك كتابه سلسلة “الدفاتر القومية” الذي جاء تحت عنوان رئيس هو “في المسألة الأمازيغية”.
لم يتوقف (علي فهمي) وهذا اسمه المركب ففهمي ليس اسم والده وهذه المعلومة لا يعرفها كثر من أهلنا في ليبيا إلا بعض مجايليه كما الصحب والأهل في مصراته مسقط رأسه .. لم يتوقف عند عروبة مصر وليبيا، بل تجاوزهما لإثبات عروبة أباطرة الرومان في كتابه “هؤلاء الأباطرة وألقابهم العربية”، كما قام بدراسات لغوية مقارنة تحت عنوان “اللاتينية العربية، بل إنه أصدر كتابي “الأكدية العربية” و”القبطية العربية” وأنجز دراسة لغوية مقارنة لتأكيد جذور العربية الراسخة في التاريخ القديم للحضارة الإنسانية.
جميل قراءنا الأعزاء ونحن نبحث عن سيرة شخصية مخضرمة مهمة مفكرة باعثة خلاقة أن نجد جوانب مضيئة تؤكد لنا أن كل غصن ممتلئ بناضج وجميل الثمر ومفيده للعقل هنا قطعا ينحني تواضعا لكل طالب راغب النهل من علمه ومعارفه .. فقد قرأت مقالا عنه بقلم الكاتب / سعيد العريبي يصفه فيقول وقد سقت معظم الحديث بينهما :
(( كانت علاقتي بالدكتور علي فهمي خشيم.. قصيرة جدا .. كانت مثمرة جدا وذات أثر كبير.. وأنا اليوم أثني على الدكتور خشيم وأترحم عليه وأدعو له بالمغفرة.. تماما كما شكرته وهو حي على تواضعه الجم ، وأخلاقه النبيلة ، وحفاوته بي، واهتمامه البالغ بما كتبت.. جزاه الله خير الجزاء. ))
بعد أسبوعين تقريبا من استلامه للورقة الأولى.. قدمت له الورقة الثانية .. وكانت تحوي تسع صفحات.. وأجمل ما في تلك الصفحات.. هو ما ضمنه بها من ملاحظات وتوجيهات.. لا زلت أحتفظ بها وأعتز بها كثيرا.. ولم لا وقد بدأ ملاحظاته بتواضع جم
قائلا : (شكرا يا بني على هذه الروح النبيلة التي أوحت إليك بهذه الكلمات التي قرأت، وهي روح صادقة لا ريب.. لكن الروح شيء.. والبحث العلمي شيء آخر.. فقد تصلح كلماتك الطيبة خطبة مؤثرة في جماعة تستمع وتنصت بتقدير عظيم.. لكنها لا تصلح منهجا علميا، ولا تعتمد للنقاش الجاد الرزين المسلح بالمعرفة الخاصة والشاملة ).
ـــ وكم هو رائع ونبيل عندما يعتذر لطالب بسيط فيقول بتواضع أيضا : (إنني – لا جدال – أقدر الباعث لما تقول وأفهمه.. وأقدر هذه الحماسة الإيمانية الغامرة).
_ وكم هو رائع أيضا.. وهو يخاطب أحد طلابه بكلامه الطيب المنمق الجميل.. معتذرا ومتأسفا.. يرحمه الله تعالى وقد كرر :
يابني إنني قسوت عليك في نقدي لورقتك الأولى، فمعذرة.. ليس من طبيعتي القسوة.. ولكن واجب الأمانة يفرض علي أن أقول لك ما أراه صوابا – وليس ضرورة أن أكون مصيبا في ما أرى – وأن أصارحك بالحق الذي تدعو أنت إليه.. فقد خلق الله كل شيء بالحق، وبقدر .. جميلة هي الأفكار التي تعرضها.. لكنه جمال أجنحة الفراشة البراقة الهشة.. وحارة هي كلماتك.. لكنها حرارة الحب تتقد في نفس صاحبها فيتعذب بها هو وحده.. دون أن يجعلها تسري في الآخرين إلا بعناء
ثم في نهاية الورقة كتب يقول :
إنك تمتلك ناصية اللغة والفكرة العامة إلا من بعض هنات …..
هل تريد ياسعيد أن تبحث وتدرس وتتعلم .. إذن اقرأ كتابات أخرى .. أم تريد أن تقدم نفسك داعية إذن فأنت ذاك منذ الآن وهذه إجازة مني بذلك .
آسف يا بني.. لا بد أن أكون معك صريحا.. فأعذرني إن “قسوت”.. ولا أزال في انتظار.. الورقة الثالثة
مع مودتي // على فهمي خشيم
طرابلس في: 1987.02.03
لتأكيد عروبة القرآن، صدر له العام 1997 كتاب “هل في القرآن أعجمي؟”، أراد منه تصحيح الشائعات حول وجود مفردات أعجمية في القرآن الكريم، فسعى إلى تأصيل تلك المفردات وبيان عروبتها بربطها بجذورها الراسخة في اللغات العروبية القديمة، كالأكادية والكنعانية والسبأية ونحوها من لغات.
وفي إجابته عن تساؤل سيدي أحمد حول استطاعة اللغة العربية استيعاب العلوم، يستشهد خشيم بأفلاطون قائلاً: وقد احتج الفيلسوف أفلاطون في محاورته “أكراتيلوس”، على كلمة Kine في اللغة اليونانية، قائلاً إنها أجنبية، والصواب أن يقال Jos (وجود) .. ونسي أفلاطون أن هذه هي ذاتها العربية، وهو لم يعرف أن kine من الكنعانية (ك و ن) والعربية (كون) التي يقول عنها الجرجاني في “التعريفات”: الكون الوجود والكون الحركة.
نشاطه الثقافي الواسع، تمثل في ترؤس وتأسيس عدد من المجلات منها: قورينا والفصول الأربعة، والوحدة، والحكمة، وأفكار والأسبوع الثقافي ومجلة (لا) والمشهد، وكان عضوا في العديد الهيئات الأدبية والفكرية والجمعيات والمراكز العلمية والصحفية المحلية والإقليمية والدولية. ترأس رابطة الأدباء والكتاب الليبيين وكذلك مجمع اللغة العربية في ليبيا.
وينتهي خشيم إلى أن اللغة العربية قادرة تماماً على استيعاب العلوم كلها، حالها حال اللغة اليابانية وغيرها من اللغات التي استوعبت العلوم الأوروبية وبزتها. ويضيف قائلاً إن “العربية” لغة في غاية الثراء والدقة، ففيما نجد في اللغة الإنجليزية تعبيراً واحداً أو تعبيرين لمصطلح “الكحة”، Cough، فإننا في اللغة العربية نميز بين أصناف من الكحات: كحة البرد وكحة المرض وكحة التنبيه وكحة الاستهزاء ، ونحو ذلك من فروقات .. وينتهي إلى أن الجهل بهذه الميزة الفريدة للّغة العربية هو نوع من الاستلاب.
يعترف خشيم أنه بدأ بدراسة الفكر الإسلامي، كما يتضح من كتابه المبكر حول “النزعة العقلية في تفكير المعتزلة”، لكنه آثر الاتجاه صوب اللغات العروبية القديمة لاكتشاف شيء جديد يوحد اللغات القديمة قبل الإسلام في بلاد الرافدين وبلاد الشام ووادي النيل والشمال الإفريقي، وبالتالي يُوحّد هذه الشعوب معاً لتواجه التحديات المصيرية التي تواجه الأمة العربية، ثم ما لبث أن انطلق لإثبات أثر اللغة العربية في اللغات الأوروبية (اللاتينية والإغريقية) على قاعدة “اللاحق يأخذ عن السابق”.
وهكذا، أسس خشيم لهذه العلاقة في كتابيه “اللاتينية عربية” و”رحلة الكلمات الأولى” وذلك لعقد مقارنة بين اللغة العربية واللغات الأوروبية بهدف توضيح الصلة الوثيقة التي تربط العربية واللغات الأوروبية. فهل نفهم من هذا أنه أراد ربط تاريخ البشرية معاً لينفي مقولة “عدم التقاء الشرق والغرب”، أو أنه ربما أراد أن يوضح فضل العرب على الحضارة الأوروبية، أو ربما أراد تسويغ تلقي العلوم والأفكار عن الغرب الاستعماري كشرط ضروري للتقدم، على نحو ما فعل الغرب عندما أخذ عنا فتقدم في ركب الحضارة وتجاوزنا!
ورغم هذا الشعور العروبي المميز، فإننا نخاف اليوم أن يسهم رحيل خشيم في خفض حدة الشعور بالوعي القومي العروبي في هذا العصر، ليصبح بدعة من منظور الشباب العربي، الذي بات متعولماً ومستلباً وواقعاً بين مطرقة الإنترنت وسندان الفضائيات. ومما قاله خشيم في هذا السياق:
“إن أبلغ الأضرار على اللغة العربية يأتي من داخلها وليس من خارجها” .
وعندما سئل : “ماذا تعني؟”، قال :
“إن الضرر الأبلغ يأتي من النحاة الذين باتوا يركزون على القواعد ويهملون جوهر اللغة وصلتها بالحياة؛ فإذا ما انفصلت اللغة عن الحياة ولم تواكب تطورها ماتت!”.
لعلنا نربط مقولته الأخيرة بفلسفة التغير عنده والتي تستدعي تطور الفكر وتغيره استجابة للظروف الموضوعية المتغيرة، إذ يرى أن فهم أي نص من دون ربطه بواقعه التاريخي وإشكاليته المفهومية الخاصة يسلب النص معناه الحقيقي ويحيله إلى جثة هامدة يتم حملها في النعش نفسه وعلى أكتاف جيل إثر جيل!
رحل الباحث المفكر الدكتور على فهمي خشيم وقد أثرى المكتبة الليبية بكم من مؤلفاته الفلسفية اللغوية والفكرية المهمة ويحكى أنه أتم دراسته الابتدائية والإعدادية بمصراته حيث ولد ، ثم أكمل دراسته الثانوية بمدرسة طرابلس المركزية. جدير أن نذكر أن أسرته لم تخلو من أدباء وفنانين أثروا المكتبة أيضا الأدبية والفنية فأشقاؤه المخرج الفنان المسرحي خالد خشيم وشقيقه الأصغر صاحب كتاب مهم لحكاوي تراثية ( مغناة السيسبان ) المسرحي الفنان والكاتب يوسف خشيم ..
مفكرنا الليبي الكبير رحمه الله .. تخرج في كلية الآداب ، الجامعة الليبية ببنغازي 1962 وتحصل سنة 1966 على ماجستير في فلسفة، في كلية الآداب، جامعة عين شمس. وعلى دكتوراه في كلية الدراسات الشرقية جامعة (درم) ببريطانيا سنة 1971.
بدأ حياته الأكاديمية محاضرًا بالجامعة الليبية، بنغازي فأستاذًا مساعدًا، ثم مشاركًا، ثم أستاذ كرسي في كلية التربية جامعة طرابلس إلى 1987، ومن بعدها باحثًا متفرغًا بدرجة أستاذ بمركز بحوث العلوم الإنسانية، أيضا أستاذا مشرفًا على الدراسات العليا في كلية العلوم الاجتماعية – جامعة طرابلس. وما بين 1976 إلى 1988 ترأس قسم الفلسفة وتولى عمادة كليتي التربية واللغات بجامعة طرابلس .. توفاه الله في التاسع من شهر يونيو 2011 ووسد ثرى مقبرة الشيخ الزروق في مصراتة يوم 6/12/ 2011