الموروث والتاريخ مؤسسا الهوية
عفاف عبدالمحسن
حينما طفح على السطح منذ فترة من الزمن حقيقة هذا التكالب علينا وبمشاركة بني جنسنا وأبنائنا في طمس الهوية العربية بدء بعدم الرغبة في إتقان اللغة العربية ثم بإدخال لهجات أخرى للسان الأم اللهجوي ثم تطعيم الجمل الوطنية الأصيلة بكلمات أجنبية .. وإذا ما تحرك حس المؤامرة في الذات والعقل سأقول ربما بقصد منهم لعدم إيمانهم أننا أوطان وشعوب تستحق العيش إلا عيشة الأتباع .. رأيت وجوب تحريك الراكد في موضوعة حفظ التراث وتثبيت الهوية وعبر قراءات مختلفة وجدت مبتغاي في كتب وأبحاث الدكتور علي محمد برهانة وفي كثير من تأكيداته عبر لقاءات معه .. وبتصرف بدأت وبتجميع للمعلومات عبر إدخال مقدمة تحكي ضمن ميعاد المثقفين عمن هو برهانة المولع بالموروث الثقافي الليبي محاولا جمعه وتصنيفه والاهتمام بإيصاله لليبيين عبر أجيال متتابعة ليعرفوا كنههم وهويتهم .. فهو مؤسس المركز الوطني للمأثور الشعبي الذي يؤمن أن التاريخ والموروث الثقافي هما معا المحددان الأساسيان للهوية بشكل عام والهوية الليبية بشكل خاص .. إنه جامع الموروث والمؤرخ المتعمق في التراث الليبي الدكتور علي برهانة .. صاحب كتاب ( سيرة بني هلال ) و ( الرواية الليبية _ دراسة مقارنة ) و(حكايات الميعاد) مجموعة الحكايات من المأثور الشعبي الليبي وقبله بزمن كتاب الشعر الشعبي الموثق لإنتاج تراثي شعري وأسماء شعراء كبار وثقوا معارك الجهاد والعادات والتقاليد وكانت أعمالهم زاخرة مصورة حياة الليبي على أرضه من حدها لحدها .. برهانه وثق عبر أعماله جلها التراث الليبي غير المادي وذاكرة شفاهية شعبية عبر بعض أعماله وأبحاثه حد أنه وثق عبر ورقة بحثية مهمة ( تقاليد الصلح في التراث الليبي ) حتى وصلنا بفضله ومن جمع معه المادة التراثية .. لتوثيق جزء عن التراث الليبي ضمن موسوعة «مكنز التراث الشعبي العربي»، الصادرة عن مشروع معهد «الشارقة» للتراث وكان في هذه الجزئية متعاونا مع الأساتذة الفضلاء محمد سعيد وفاطمة غندور .. وعبر هذا المقال .. وهو من عرفنا عبر كتابيه الجزء الأول والثاني ( الشعر الشعبي ) حكايات الجهاد الليبي بل والشعراء الذين صوروا لنا تلك الملاحم فكان الشعر الليبي المؤرخ والحافظ لتاريخ الجهاد وأسماء كثر من المجاهدين .. وإذ تتكالب الثقافات الغربية لتقودنا إليها عبر حرب باردة جديدة غير غافلين على الحروب الفعلية لهم على الأرض في بقاع كثيرة من العالم وإن لم تكن بأيديهم ومباشرة فعن مندوبيهم من أهل تلك البلدان المتصارعين على اللاشيء سوى هدم أوطانهم وتشويه صورتهم الحياتية وتسربل لهويتهم من بين أياديهم الملطخة بعار تحاربهم أهلا ليحل محلهم مسوخ عن ثقافات متنوعة فيها من الغث ماينهي أي ثمين من شأنه الحفاظ على وطن بكامل مقوماته .. فكيف نحافظ على أجيال آنية وتأتي دون أن نجمع الباحثين والمهتمين لتدارس الوضع والحث على التمسك بالهوية .. خوفا من إنهائنا كشعوب لإنهائنا كأوطان والغاية صراع وجود …….
الباحث الليبي علي برهانه يرى أن العلاقة بين الهوية والموروث الثقافي علاقة أساس وتكوين ، لأن الموروث الثقافي هو المحدد الأساسي لهذه الهوية، إلى جانب التاريخ حينما نأخذ عن هذا الباحث الليبي علي برهانه في هذا الشأن علينا بالمصادقة والتثبت فهو المتحصل على درجة الدكتوراه في الأدب الحديث ، وهو من الداعين إلى ضرورة حماية الموروث الثقافي الليبي .. وكانت له جهود كثيرة من أجل توقيع ليبيا على اتفاقية لصون وحماية التراث الثقافي غير المادي أبرمتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ولكن باءت محاولاته بالفشل ومايزال مهجوسا بتنفيذ مقترحه المهم .. كما أسس في العام 2003 في مدينته سبها .. المركز الوطني للمأثور الشعبي ليعنى بالحفاظ على الموروث الليبي بشكل عام ومذ ذاك التاريخ عكف المركز بمؤسسه والعاملين فيه على تنفيذ هذا المشروع المهم لتأرخة والحفاظ على إرث غير مادي شفهي كان أو مكتوب لجمعه وتوثيقه وتنقيحه ولملمة الكتب المتحدثة عنه في كافة المجالات الأدبية وللأسف هذا المجهود التوثيقي الكبير توقف في العام 2012 م بسبب الفوضى التي عمت البلاد وتسليمه لأشخاص لا يعنيهم النشاط الثقافي بالمنطقة ولا التراثي الموثق لإرث حضاري ثقافي أدبي يعني وطن برمته ..
برهانه الباحث المهموم بما ينقب عنه يقول : حكايتي مع الشعر الشعبي بدأت منذ الطفولة .. فأنا أنتمي إلى عائلة اشتهرت بالشعر والشاعر عبدالمطلب الجماعي جدي الرابع ، كما أن اسم ‘برهانه’ جاء لعائلتنا نتيجة للشعر، فكان والدي رحمة الله عليه راويا للشعر، ووالدتي راوية للتراث ، وإخوتي وأخواتي الأكبر مني سنا وحتى الأصغر يروون الشعر، فالوسط الاجتماعي الذي نشأت فيه كان وسطا تراثيا بصفة عامة ، جداتي ، أعمامي وجيراني وغيرهم . نشأت في بيئة أمية تعتمد اعتمادا أساسيا على التراث بصفة عامة والشعر بصفة خاصة”.
فما هي الطريقة التي تمكنه من تحقيق هدفه السامي للحفاظ على الموروث الليبي !!!
صاحب كتاب “الشعر الشعبي يرى أن لا أحد يستطيع تحديد بدايات الشعر الشعبي ساحبا الأمر على الشعر العربي بصفة عامة فحتى بدايات القصيدة الجاهلية غير معروف كما إنه عبر أبحاثه وكتبه يؤكد أن الشعر الجاهلي هو شعر شعبي مثبتا ذلك الرأي في المجلد الأول من كتابه ( الشعر الشعبي ) معتبرا أن الشعر الشعبي هو ماكان يمثل صنعة جماعية وليست فردية معرجا على تطور القصيدة الشعبية الآن إلى ما عرف بالشعر المحكي ليظل النمطان محكي وشعبي يسيران معا كما التجانس والتماهي مع التباعد في حبكة القصيدتين ( العمودية والتفعيلة ) في القصيدة العربية .
يوضح علي برهانه أن الحديث عن المرأة في الشعر الشعبي مرتبط بالموروث العربي .. فالناظر إلى الشعر الجاهلي والإسلامي يرى أن وصف المرأة لم يتغير كثيرا إلى وقت قريب ، وكذلك الأمر في الشعر الشعبي ، ولكن في الوقت المعاصر تغير الوضع وحظيت المرأة في القصائد الفصيحة بخطاب إنساني مختلف ، أي بوصفها فردا له حضور روحي ونفسي وعقلي إلى جانب الحضور المادي وخاصة في التجارب المحكية هذه موضوعة مهمة .. أما الأكثر انجذابا لها هو ماجعلنا عن طريقه نعرف كيف كانت حقبة الاستعمار في بلادنا وملاحم الجهاد ومن هم بالاسم والعائلة والقبيلة أولئك المضحين بأرواحهم قادة للجهاد ومساندين من رجال ونساء وشباب صغار ربطنا بهم الشعر الشعبي الليبي الذي قيل أثناء الفترة الاستعمارية وخاصة في ما يتعلق بسنوات الاحتجاز الجماعي 1929ـ 1934 .. يقول الدكتور برهانة :
” كانت قصيدة الشيخ رجب بوحويش “ما بي مرض” أكمل تعبيرا عن موضوعها ، وقد شاركه فيها شعراء معاصرون له مثل (( هيبه بوريم // ومحمد بن زيدان )) ولكن هناك قصائد لا تقل عنها جمالا وقدرة تعبيرية ، مثل قصيدة “عليك وقت متعاكس غلب هندازه” وقصيدة “ أحوال حايله بين المنام وطيبه ” وغيرها.
للحفاظ على الهوية والموروث كلنا يؤكد أهمية التوثيق وإننا نتمكن عبر روح العصر من تعدد طرقه أي بالتسجيل المسموع والتصوير المرئي وعبر المنصات الإلكترونية المتعددة كما عبر الكتب التي تعد أكثر أهمية من هذا وذاك لأنها لا تموت ولا تتقادم فرغم مانحن عليه من تطور اليوم إلا أن أمهات الكتب بين أيادينا والمكتبات زاخرة بها لا يستغنى عنها وسأقف عند جملة مهمة قالها في أحد لقاءاته الدكتور علي محمد برهانة الحريص على عدم اختلاط كلماتنا الليبية وعاداتنا الجميلة مهما اختلطت الثقافات وأن نثبت بوطنيتنا وقوة مالدينا لهجتنا فلا مبرر حقيقي لتبديل لساننا الليبي بآخر سواء عربي أو أجنبي فهو يقول :
إن وطنيتنا بحاجة إلى تقوية .. أمور كثيرة تغيرت في حياتنا الشعبية من اللباس ، والكلام ، إلى ثوابت الوطن ، وكما لا يخفى ، المؤثرات كثيرة في زمن العولمة ، ولكنها ليست خاصة بنا ، فإننا نجد جيراننا القريبين منا مثل المصريين والتونسيين والجزائريين والمغاربة متمسكين بأزيائهم ولهجاتهم بطريقة لافتة للنظر، ونحن؟ هل بقي لباس عربي لم نلبسه ؟ أو لهجة لم نتكلمها ؟ وهذه إحدى مظاهر ضعفها ( قاصدا وطنيتنا وغيريتنا تجاه موروثنا برمته ).
برهانة كما نوهنا بداية الكلام هو صاحب كتاب ” سيرة بني هلال ” وجاء بمسمى (( سيرة بني هلال _ ظاهرة أدبية _ دراسة أدبية لغوية مقارنة )) وكثر كتبوا وجمعوا السيرة الهلالية بل وسجلت أيضا على لسان حكواتي تارة وأخرى جمعت بين الحكاية والأغنية الشعبية الليبية لسردها متكاملة يستصيغها السامع الذي يبتعد عن قراءة الكتب ورسخت القراءة اللغوية المقارنة في أذهان كثر ممن تناولوا الكتاب فقال أحد المهتمين : الدكتور علي برهانه لديه كتاب عن سيرة بني هلال جمّع فيه خمس روايات لقصة بني هلال في ليبيا من الشمال والجنوب والشرق والغرب ، وتبقي الوسط ، نحن بنو رياح أيضاً باعتبارنا من بني هلال لنا روايتنا وفيها إضافة كيف وصل بنو هلال إلى سوكنة واستقروا فيها وبقوا إلى اليوم .. إذن علينا تجميع روايتنا للتغريبة فالنسأل كبارنا من رجال ونساء عن قصة بني هلال كلها بحذافيرها ثم كيف انفصل بعض من بني رياح وقصتهم إلى أن وصلوا سوكنة ولماذا كان خلافهم مع الكعوب كما نقول أو بني كعب ؟
إذن هناك من يبحث بتعمق ولا يريد أن تكون القصص الشعبية منقوصة الأطراف وكل يبذل جهده لهذا كما أكد برهانه نفسه الباحث الوثيق وفي كلامه شجن واضح :
السيرة الهلالية ظاهرة أدبية ولكن لا جهود مبذولة في الوقت الحالي لجمع التراث الليبي .. ربما بعض الجهود الفردية رغم أننا لا نحتاج لخطوة أولى في هذا الصدد فلدينا رواد، رحم الله من توفي منهم ومتع الحي منهم بالصحة ، قاموا بمجهودات كثيرة ومشكورة في هذا المضمار، منهم محمد احقيق، والقشاط ، والنويري، وقادربوه، وفنوش، وأستاذنا الدكتور علي الساحلي، والمزوغي، وخديجة الجهمي، وليسمح لي من لم أذكر اسمه. هذا من جانب، ومن جانب آخر لدينا مركز متخصص أنشئ سنة 2003 وقام بمجهودات لا بأس بها في هذا الإطار، ولكنه تعطل بعد ثورة 17 فبراير، ثم مؤخرا استولت عليه مجموعة بالقوة طبعا وهي مجموعة لا علاقة لها بالتراث ولا تعرف عنه شيئا، وقد نشرت في صفحتي الشخصية استغاثة لليبيين ولكنها ذهبت أدراج الرياح”.
إن الباحث الدقيق والوطني الأصيل بحرقة يتحدث عن كنوز الوطن الأدبية المتوارثة خوفا على ضياعها شيئا فشيئا بسبب العصرنة والمَدْيَنَةِ والتأثير الاستعمار الجديد بمحاولة دثر الثقافة الأصيلة للشعوب بتغلغل الجديد باعتباره مواكبا للعصر وأن تأصيل اللغة والملبس والكلام والأمثلة والأشعار والعادات الحياتية اليومية إنما بوالي يجب تركها وبانسيابية لا تشعر المحيط العام أنها متعمدة ..فهل سيأتي علينا يوم لتندثر ثقافتنا وهويتنا الخاصة بسبب انسياق الجيل الجديد أو لنقل بعضه وراء كل حديث غريب وعدم تلاحم الجهود مع المهتمين والبحاث للحفاظ على الموروث غير المادي وجمعه بينما كبارنا من يمكننا أخذه عنهم نفقد كل يوم أحدهم مضيعين فرصة جمع إرث إن غاب غبنا .. ومع سبر غور صاحب كتاب (( الرواية الليبية _ مقاربة اجتماعية )) رأينا إيمانه وتأكيده بأن العلاقة بين الهوية والموروث الثقافي علاقة أساس، لأن الموروث الثقافي هو المحدد الأساسي لهذه الهوية ، إلى جانب التاريخ ، وكما لا يخفى على أحد ، تدخل في تكوين الموروث الثقافي مكونات كثيرة منها التاريخ ، واللغة ، والدين ، والأدب ، والفن ، والتراث بشقيه الفصيح والشعبي ، والتعليم ، والصحافة المسموعة والمرئية والمقروءة ، والدراسات الإنسانية القديمة ، الأنثروبولوجيا ، وعلم النفس وعلم الاجتماع ، وكل أشكال الخطاب الموجه وغير الموجه يدخل في تحديد الهوية ، وهذه هي “الهوية”، المتوقفة على ما يتمتع به الفرد من ثقافة ، متى ما كان مثقفا قارئا واسع الاطلاع كان إحساسه بالتاريخ أقوى ومن ثم تمسكه بالهوية .. ربما هنا ينتهي القول الممعن لصاحب الهم ولكن الفعل لا يجب أن يتوقف ويسعى كل مهموم بالهوية وموروثنا وقادر على لملمت ما استطاع أن يفعل ويثير الأمر عبر كل الوسائل فقوتنا وبقاؤنا .. هويتنا الأصيلة .