قراءة متأنية في “سر ماجرى للجد الكبير”
أمينة الصبيحي
علي محمد الجعكي .. قاص يحيا بالكلمة .. وبالنظر إلى القصة القصيرة ، يظن المرء بالتأمل فيها لفترات طويلة ، أو حتى أثناء قراءته لها ، بأن كتابتها لأمر سهل للغاية ، ولكنه تحديّ حقيقي لمن لا يريد إغفال ذكر التفاصيل .. حيث توضع المقدمة ومن ثم الحدث .. ومن بعد ذلك النهاية .. التي لطالما أتت فجأة وعلى حين غرّة من القارئ.
الأحداث تُحشى في سور ضيّق ، وتسرد بعدد كلمات وعدد صفحات معينة.. فالقصة القصيرة وإن طال الحديث عنها تتمتع بمقومات تجعلها مختلفة عن باقي الكتابات الأخرى، لها جمهورها الخاص، وكتّابها المتخصصين؛ نظرا لصعوبتها.
وإن نجح القّاص في سرد حكايته فعلا ، فإن النتيجة تكون بإعادة القارئ قراءته لها مرات معدودة ليفهم ما لذي حدث بالتحديد أثناء قراءته الأولى .
فالقصة القصيرة لا تقرأ على عجل ، هذا العالم المتخيل الذي ينشأ فجأة بقراءتك لأسطر معدودة قد يلازمك طوال حياتك.
وكي تعاد قراءة القصة مرات ومرات .. وليذكر اسمها بذكر اسمك، يجب أن تمتلك المفاتيح اللازمة التي تساعدك على الكتابة.. تمتلك مقومات اللغة ، والكلمات ، وحس المغامرة.
في الأدب الليبي، توجد الكثير من الكتب التي تسرد القصص بطرق وأساليب مختلفة، المملة منها وكأنها واجب تعبير مدرسي، ومنها المثير للاهتمام، الراقص، الشيّق، الذي يلبسك كغطاء لتدفئتك من المطر الذي يوشك على الهطول أثناء القراءة.
ففي مجموعته القصصية “سر ماجرى للجد الكبير” وتحديدا في قصته حالة تلبّس المنسردة في صفحات معدودة، يستحضر الآديب والقاص الليبي “علي محمد الجعكي” جو الحافلة العامة في طقس صيفي حار جدا، على الرغم من أنه لم يذكر ذلك، لكن ضيق المكان وضيق الكرسي والجار الجالس على قلبه يضعانك في جو صيفي حار عند درجة حرارة 38 س تقريبًا، تجد نفسك فجأة جالس من الخلف، مراقبًا حركة الجميع، تخرج من الحافلة بشق الأنفس، مبلل ومغطى بقاذوراتك وبقاذورات من كانوا معك.
يدا بيد يمر الجعكي مع القارئ على صفحات كتابه، محدثا إيّاه عن ما تحمله النفس من أثقال على كتفيها، وحالات شخصياته النفسية المتفاوتة، وعن صراعاتهم اليومية، وساذجاتهم. وما يميز كتابات الجعكي هو استخدامه للسرد بطريقة تصويرية أقرب إلى الشعر، ما يجعله واحد من أفضل كتّاب القصص القصيرة على مستوى البلاد، هذا لأنه لم يستهن أبدا بما يكتب في عدة صفحات أو حتى أسطر، بل آثر على نفسه التغنّي بالكلمات وعرض صوره البليغة المتمثلة في الكلمات المتلاصقة بحرفيّة تامة، حتى تصبح أقرب إلى الحقيقة أثناء قراءتها.
فلا يمكن للقارئ العادي أن يشعر بأنه أيضا جالس في الحافلة، مخانقا بالروائح النفّاذة، أو أن يرى جبال أكاكاوس متجسدة أمامه أو حتى أن يشهد موته غريقا، إلا إذا كانت لديه ذائقة الكلمة والصورة.
حالة تلبس “قصة قصيرة” لـ علي محمد الجعكي:
( أيها الجسدُ المُتبّل بالآلم .. أيها المطر الأرجواني الوحشيّ .. تهطلُ غيماتك السّود في الأحراش اليابسة ، في غيابةِ النفس تنمو أكاليلُ الشّوك . يترعرعُ الألم . يتفتّقُ برعم الوسواس والتحوّل . الخجلُ يطفو كلوحٍ زنخ . يتشكّل كورمٍ مُخيف . ينمو بسرعةٍ في نفسي …….)
إن الجعكي من أكثر الكتّاب الذين قرأت لهم يكنون إحتراما كبيرا وبالغا للقصة القصيرة ، يعمل على بناء قصته رويدا رويدا، كحديقة سريّة يبنيها ويزرع بها مايطيب ، حتى يجهزها ويخرجها للملأ.. تامة. فلا يمكن لأحد أن تقع بين يديه إحدى نصوصه، وألا ترتسم على وجهه علامات الدهشة مما قرأ.