مجد العماري
روما تغفو تحت غسقٍ قرمزي. نهر التيبر ينساب كشريط حريري مُلقى على صدر المدينة، يحمل في تموّجاته صدى أحجارٍ رومانيةٍ بائدة. ريح مسائية ترفع أهداب إليزا، بينما تقبض على فنجان الشاي البارد، تاركةً أصابعها تتشبث بالدفء الوهمي. من وراء النافذة، تراقب الشمس، وهي تنسحب خلف قباب الكنائس، كعاشقٍ يخجل من نظرات العالم. في الغرفة المجاورة، زوجها يقلّب صحيفةً ببرود، صخبُ الأوراق يغطي على دويّ الفراغ في صدرها.
على بعد أميال، يُطبق أندريا على كتابٍ لم يقرأ منه سطرًا. يهمهم كمن يحاول إقناع نفسه بشيءٍ ما، ثم ينهض مُجبرًا. يقف عند نافذة شقته الضيقة، نفسُ الغيمة التي تراها إليزا الآن تعبر سماءه. هاتفه الصامت في جيبه يثقب لحمه، كرصاصةٍ مُبطّنة بالقطن. زوجته تُعدّ العشاء، ضحكات أطفاله تتصاعد، كفقاعات صابون. يداه ترتجفان، كما فعلتا حين أمسك بيد إليزا قبل عشر سنوات، تحت تمثال برنيني في ساحة نافونا.
“لو…” تهمس إليزا للفراغ، بينما يبتلع أندريا الكلمة ذاتها. لم يعودا يتحدثان، لكن شفق كل يومٍ ينسج خيطًا خفيًا بين نافذتيهما. تُغمض عينيها فتشمّ رائحة خشب الأرز التي كانت عالقة بمعطفه، بينما يلمس هو جبينه، كمن يحاول إمساك شبح.
في المقهى القديم حيث كانا يلتقيان، لا يزال الكرسيان الخشبيان المتقابلان يحتفظان بثقوب سجائرِه. جرس الباب يطنّ بنغمةٍ حزينة، كلما دخل أحد، كأن المكان ينتظر عودتهما. النادلة العجوز تمسح الطاولة ذاتها كل مساء، تاركةً أثرًا دائريًا على الخشب كدمعةٍ مُجمّدة.
تلتقط إليزا قلمًا، وترسم دوائر على زجاج النافذة المُتعفّن. في الشقة المقابلة، طفلٌ يلوّح ببالونٍ أحمر. فجأةً ينفلت الخيط، يرتفع البالون نحو السماء مُلوّحًا بذيله، كرسالةٍ غير مكتملة. تُمسك إليزا بهاتفها لثانية، ثم تتراجع. في نفس اللحظة، يُخرج أندريا هاتفه، وينقر رقمًا محذوفًا منذ سنوات، لكن جرس اتصالٍ وهمي يضيع في فراغ الأثير.
الليل يُرخي ستائره الثقيلة. إليزا تفتح حوض المطبخ لتغسل الفنجان، الماء الساخن يُذيب البرودة العالقة بأصابعها. في الجهة الأخرى من المدينة، يفتح أندريا ثلاجةً مليئةً بالوجبات الجاهزة المُعبأة في علب بلاستيكية لامعة. رائحة البيتزا الباردة تختلط بعطر إليزا القديم الذي لم يعد يُنتج.
عند منتصف الليل، تُضيء إليزا مصباحًا صغيرًا، وتفتح دفترًا جلديًا تآكلت أطرافه. تكتب: “اليوم مرّ كسحابة…” وفي نفس اللحظة، يكتب أندريا على هاتفه المحمول: “…وأنا أرقب المطر الذي لم يهطل”. يحذف الجملة فورًا، بينما تطوي إليزا الصفحة بهدوء.
النجوم تتكاثر فوق روما، كثقوب في غطاء أسود. نافذتان مُضاءتان في مبنيين متباعدين، كلٌ منهما يشكّل نقطة في مُثلّثٍ ناقص، تاركة الفراغ في المنتصف لشبحِ ما كان يمكن أن يكون.
