محمد سالم الفيتوري
فإنّ ممّا ينبغي أن يشار إليه في هذه الأوقات، وأن ينظر إليه بعين الدقة، وملاحظة الحكمة؛ فالمنجزات التي ينجزها أعلام بلادنا، في ظل الظروف المختلفة والكثيرة التي تمرّ بها البلاد، وما جلستنا هذه إلا احتفاء واهتداء وتنبيه على عمل رائع ومميز وجميل. لقد اهتم العلماء في بلادنا بالشعر، وكتبت فيه كتابات من متنوعة، التزم الأوائل فيهم ببحور الخليل وقوانينه وقواعده وساروا جميعا على ذلك، إلا أنهم تفاوتوا في شعرهم، في الكناية والبلاغة والبديع، والصور البلاغية، والتصوير الشعري، والتصور البياني والإفادة من المعاجم العربية في المترادفات والأضداد، ونفيس الجمل، ودرر العبارات، وبديع الألفاظ .. ذلك أن بلادنا منذ أن دخلها الإسلام ” وقد يكون قبل ذلك” ، لا تكاد تجد فيها عصرا من العصور إلا والشعر مكتوب فيه بشكل بديع ، بحيث إن كل عصر يحوي مجموعة من الأعلام ، اهتم بعضهم بالشعر وكتبوا فيه وفي مقاصده المختلفة أشعارا بديعة، ومبتكرة، ومفيدة، وفيه الشعور والمشاعر والأحاسيس، طيلة القرون، وكلهم سائرون على نهج بحور الخليل التي يعرفها الجميع، وهذا مما ينبغي أن يشار إليه في مناهجنا، من الابتدائية حتى الجامعة، وينبغي البحث في هذا وتخصيص مؤلّف خاص لأجله، وسأضرب هنا بعض الأمثلة :
_ هاشم بن محمد المتيّم الطرابلسي، من أقران أبو العلاء المعري، من القرن الخامس الهجري، من شعره :
مَضَتْ لِلْهُو أَوْقَاتُ ** وَلِلْأَوْقَاتِ لَذَّاتُ
_ محمد ابن شرف الأجدابي ، من القرن الخامس الهجري ، ومن شعره :
إِنْ تَرْمِكَ الْغُرْبَةُ فِي مَعْشَرٍ ** قَدْ جُبِلَ الطَّبْعُ عَلَى بُغْضِهِمْ
فَدَارِهِمْ مَا دُمْتَ فِي دَارِهِمْ ** وَأَرْضِهِمْ مَا دُمْتَ فِي أَرْضِهِمْ
_ سليمان بن محمد الطرابلسي من القرن الخامس، ومن شعره :
أَجِرْ جُفُونِيَ مِنْ دَمْعِ وَمِنْ سَهْرٍ * وَأَضْلُعِي مِنْ جَوَى فِيهِنَّ مُسْتَعِرٍ
_ عمر بن عبد العزيز الطرابلسي من القرن السادس ومن شعره :
عَظُمَ اشْتِيَاقِي وَالنَّوَى أَبَتِ التَّدَانِي وَالوُصُولْ
_ عبد الحميد بن أبي الدنيا من القرن السابع الهجري، ومن شعره:
طرُقُ السَّلَامَةِ وَالْفَلَاحِ قَنَاعَةٌ وَلُزُومُ بَيْتٍ بِالتَّوَحُشِ مُؤْنِسُ
_ محمد بن محمد النائب الأنصاري من القرن الثاني عشر الهجري، ومن شعره :
هَذِهِ أَنْوَارُ لَيْلَى قَدْ بَدَتْ وَجَلَاهَا النُّورُ فِي أَحْسَنِ زِيَ
_ أحمد البهلول ، من أعيان القرن الثاني عشر، ومن شعره:
أذُوبُ اشتياقاً وَالْفُؤَادُ بِحَسْرَةٍ *** وَفِي طَيّ أَحْشَائِي تَوَقُدُ جَمْرَةٍ
مَتَى تَرْجِعُ الْأَحْبَابُ مِنْ طُولٍ سَفْرَةِ ** أَحِبَّةَ قَلْبِي عَلَّلُونِي بِنَظْرَةٍ
فَدَائِي جَفَاكُمْ وَالْوِصَالُ دَوَائي
_ محمد بن عبد القادر الفطيسي من القرن الثالث عشر الهجري، ومن شعره :
انْظُرْ يَمِينًا فَهَذَا الطَّوْدُ دَيْسَانُ ** وَانْظُرْ شِمَالًا فَمَا في فِي الرَّبْعِ سُكَانُ كَانَتْ بِهِ مِنْ بَنَاتِ الْحَي طَائِفَةٌ * * تُمَاثِلُ النَّاسَ خَلْقًا وَهْيَ غِزُلَانُ
فِيهِنَّ سَالِمَةُ الطَّبْعِ الَّتِي تَرَكَتْ ** خَلِيلَهَا الصَّبُّ يَهْذِي وَهْوَ يَقْظَانُ
صَانَتْ شَمَائِلَهَا عَنْ كُلِ مَنْقَصَةٍ ** لَهَا الْعَفَافُ وَحُسْنُ الْخُلْقِ عِنْوَانُ
_ عبد الرزاق البشتي، من أعلام القرن الرابع عشر، ومن شعره:
أَنْتُمَا حِبَّانِ كُلِّ عَاشِق ** أَيْنَ مَا أَضْنَى جَمِيلًا وَبُثَيْنِ
غير أن هذا الخط القديم الأثري الجميل أصبح اليوم يتهافت وينقص شيئا فشيئا، ويتغير إلى نظم جديد في الشعر، لم يُعرف في بلادنا، وليس له سند، وفيه شيء من العجلة العلمية .. وعصرنا اليوم داخله شيء من الخلل، ولك أن تقارن حيث إن من أراد أن يكتب بناء على قواعد خليل فينبغي له أن يدرس دراسة كاملة العلوم التالية: علم العروض، وعلم الصرف، وعلم النحو، وعلم البلاغة بديعا ومعاني وبيان وعلم الوضع، وأن يكون على وعي ببقية العلوم بشكل لطيف، بحيث يستطيع أن يستفيد منها في الكتابة الشعرية مع ملازمة لقراءة المعاجم المختلفة، والدواوين الشعرية، وغيرها من الكتب التي تتمي الثروة الكلامية من مصطلحات وعبارات وألفاظ، بحيث يستطيع بعد ذلك إذا أراد أن يكتب شيئا أن يكتب بإيداع صحيح ولا جدل في أن الشعر أوله خيال وابتكار نابع من شعور ومشاعر، ولكنها جميعا لا تترجم إلا إذا كان لهذا الإنسان مفردات يستطيع من خلالها أن يعبر عن خياله وشعوره ومشاعره، ومهما كان خياله وشعوره في الذروة العالية، فإنه لا يستطيع أن يكتب شيئا فخما شعرا أو شكرا إلا إذا كانت مفرداته أيضا في الذروة العليا، وأعلم من بلدان تجاورنا أن أطفالهم لهم ورد يومي من كتابة وقراءة المعاجم بل وحفظها، وكان كان موجودا في بلادنا قبل وجود التعليم الحديث !
هذه ملاحظة أردت أن أقدمها بين يدي الحديث عن القيم في ديوان الهوني والقيم والقيمة كما يعرفها كثيرون .. الشيء الإيجابي الذي ينبغي أن يُشاهد به، وأن يُحافظ عليه، وأن يدعم ؛ لأنه يحافظ على الفكر والعقل والروح والنفس والجسم، والإنسان عموما، والوطن، والثقافة والوعي.
فكل شيء يمكنه أن يحافظ على هذه البنى جميعا، يمكن أن نعتبره قيمة. وهذا أيضا مدخل ومدرسة أخرى مختلفة عن بقية التعريفات الأخرى، حيث عرفها كل علم بتعريف خاص ومختلف ، وله اعتباره .
أردت أن أذكر القيم في ديوان الهوني ؛ لأنه مع صغر حجم الديوان ، إلا أنه كان مستحضرا لمجموعة من القيم، كثيرا ما أهملت اليوم ، سواء في المناهج الدراسية، أو في القنوات الفضائية والإعلام عموما.
إن القيم تزرع في البيت ، وتسقى في بقية الأماكن الأخرى، في المدارس والمساجد والجامعات والمجالس الثقافية والمدنية وحتى السياسية، وفي المجالس العلمية والفضاءات الإعلامية المختلفة، لتنمو وتكبر وتفيد الوطن وأفراده .. هكذا هي القيم في كل الدول إلا أن الدول حين تمر بحزمة من المشكلات كبلادنا اليوم، يحصل فيها خلل عميق، وعميق جداً.

غير أن أستاذنا الهوني بحفظه الله كان مستحضرا لهذه القيم في ديوانه، مؤملا أن يكون في بقية الدواوين التي ستطيع لاحقا حضور لهذه القيم.
بلغ عدد القصائد في ديوانه ذو الخمسة والثمانين صفحة، إحدى وخمسين قصيدة %90 منها حديث عن القيم المعرفية والأخلاقية والحياتية والبيئة والفكرية والمجتمعية والمكانية.
فقد أورد في إحدى قصائده قيمة العلم وأهميتها، وأهمية استحضاره، وأهمية الحديث عنه :
تعلموا وعلموا… لعلكم تنتبهوا (1)
وهذا يحتاج إلى الحديث عن قيمة المعلم، فتحدث عنه في قصيدة خاصة، عرج للحديث عن المعلم ومهمته وأهميته ودوره وما ينبغي تجاهه، والمشكلات التي يتعرض إليها في وقتنا المعاصر.
يحيا المعلم فهو سرّ وجودنا *** وله الحلق بكل ما يعنيه (3)
واهتم بالكتاب في قصيدة أخرى، وأنه ذو أهمية عالية، فدونه لا يمكن بناء الأوطان، ولا يمكن أن يحصل العلم ولا المعرفة، ولا الارتقاء، ولا الفضل، ولا أي شيء، ولا يكون الكتاب إلا بالقلم، فأشار إليه في قصيدة مخصصة، مع فضيلته، وأهميته، ومشكلاته.
كان الكتاب على الدوام وسيلة جمعت قطاف الفكر بين يدينا
كما خصص للتراث ،قصيدة، كقيمة معرفية مهمة التراث المكتوب، والمسموع والمرئي كل هذا من التراث المهم الذي ينبغي أن نركز عليه؛ لأنه قيمة، ولأنه يحافظ على كثير من القيم الأخرى التي بها ترتقي الأوطان.
أحيوا التراث وأتقنوا إحياءه *** إنّ التراث حضارة وعطاء (4)
واهتم باللغة العربية، التي منها نستفي القيم والمعاني والمعارف والارتقاء، وهي قيمة مهمة، ينبغي الافتخار بها، والاهتمام بها، وتحبيبها، لاسيما في أوقات الأزمات، والتفكر في تاريخها وارتباطها بالعلوم، وبالحضارة وبالمعارف، وضرورة الحفاظ عليها.
لغة العروبة والمصاحف مهدها ** مدّت جسور الكيل والميزان (5)
وركز على قيمة الاهتمام بالوطن وحبّه، فكتب عدّة قصائد عن مجموعة من المدن الليبية .. ويبدو أن اهتمامه هذا ليس مقصودا به قصر الاهتمام على المذكورة وحسب، بل من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، فكأنه ذكر هذه المدن وأراد كل الوطن، المترامية أطرافه، فكتب قصيدة خاصة للمدة التالية: المرج، الأبرق القبة، سوسة، البيضاء، هون، الجنوب، بنغازي، خصص لها من شعره لشيء حصل بينه وبينها، من سفر أو حضور معرفي أو ثقافي أو ترفيهي أو تاريخي يستحضر هذه القيمة القيمة، وهي تشير إلى مجموعة من المعاني في مقدمتها الوفاء والحب، والوصال، والاهتمام ، والتواصل الثقافي، لأن من لا وفاء عنده لا أمان لديه، ومن لا أصل له لا فرع له، ومن لا ماضي له لا مستقبل له.
مدن بساحلها الطويل تناثرت ** والخير فوق ترابها يحييها
وأشار إلى أهمية الوعي بما يحيق بيلدنا من مشكلات، فأشار إلى موضوع الاستعمار وأنواعه، ومشكلاته، ونياته وأغراضه، وأهمية الوعي بهذه القضية، للأفراد والجماعات وأهمية استحضار التاريخ الماضي للمقاومة وما يرتبط بها من قيم العزة والكرامة والشهامة والفزعة والإباء .
الأرض نادت تستغيث بأهلها *** ومصير عودة مجدها بيديها (6)
ولم يغيب مستجدات العصر، كقيمة معرفية مضافة، وأهمية فهمها وتحليلها ودور الإنسان حيالها، حتى يحافظ الإنسان عن قيمه، وتراثه، وتاريخه، وأهدافه، فيكون جنديا يخدم وطنه وأسرته ، ولا يستخدمه الأعداء في غزو بلادنا، فكريا أو ثقافيا أو عسكريا.
فالغرب يسبقنا بصنع لوازم ٠٠ ويكيدنا إنتاج ما تبغيه (7)
واهتم بقيمة الصلح في هذا الوقت نحن نحتاج إليه في بيوتنا، ومدارسنا، ومساجدنا، في وطننا، سياسة ،ثقافة، معرفة؛ لأن المشكلات دخلت في كل شيء، لم تستثن شيئا، فمشكلات حاصلة في البيوت، وأخرى في المساجد، في الجامعات، في المدارس، في الوزارات، في المجالس النيابية، والمجالس الحكومية، وإشارته لقيمة الصلح؛ لأن الصلح من الصلاح والإصلاح والتصالح، ومرادفاتها جميعا، فينبغي استخدامها واستحضارها، وبالصلح يحصل الهناء والسلام، وإذا ما حصل ذلك حصل نوع من الارتقاء، وهي
القيمة العالية.
إلام يطول الأذى بينكم ** ويسري الأناجر والانتقام ؟(9)
كما أنه أشار إلى قيمة الأمل، وأن الأمل رحمة من الله لعباده، كما ورد في الأثر، ولولا الأمل لم ترضع أم طفلها، فكأن الأمل مقو وفيتامين ومضاد حيوي للإنسان يستطيع أن يستفيد منه في أوقات الأزمات ومهما حصل من مشكلات سياسية والاقتصادية ومالية وغيرها، فلا ينبغي للإنسان أن ييأس، وإنما عليه أن يتأمل، منتظرا للخير، مشمرا
عن ساعد الجد ، ساعيا في الإبداع والعمل والابتكار والخدمة ، حتى يتحقق المأمول.
ونحقق الأمال عبر كفاحنا ** بالعلم تبلغ قمة العلياء (10)
وأختم بالقيمة الأخيرة التي رأيتها في هذا الديوان، وهي قيمة الأخلاق، والأخلاق عبارة واحدة ولكنها تطوي مجموعة من القيم تجمعها هذه العبارة بل إن كل قيم الخير في هذا الكون تجمع في الأخلاق، فلا قيم بلا أخلاق، ولا حياة، ولا معرفة، ولا علم، ولا تصالح، فالأخلاق أمة لوحدها من بين القيم الأخرى وهي تصلح كل شيء، فكأنه اشار إلى أن الأخلاق منهج وقيم من القيمة المتكاثرة، وينبغي أن يكون حاضرا في البيت من خلال منهاج تكرره الأسرة وتتدارسه بينها، وأن يكون حاضرا في المدارس من خلال مقرر دراسي، يهتم بالأخلاق بشكل مركز ومخصص، لا أن يكون من خلال درس أو درسين ضمن البرنامج الدراسي في المقررات، بل ينبغي أن يكون كتابا خاصا بالأخلاق، وتاريخ الإسلام زاخر ومليء بالمؤلفات التي تهتم بالأخلاق وتهذيبها والحث عليها، وكانت مقررات في المدارس والزوايا العتيقة، وفيها الحث على الأخلاق المحمودة والنهي عن الأخلاق المذمومة، فكأنه يريد منا أن نستلهم ذلك، وأن تستلهم الحكومات في هذا العصر صناعة مجموعة من المشاريع تتحدث عن الأخلاق وتدعمها من خلال البرامج المطبوعة والمسموعة والمرئية والتدريبية والمقررات وهو من واجبات العصر.
تتوارث الأجيال عبر زمانها ** ما تحمل الأعراف من ماضيها (11)
من لحمة بين الجميع وألفة ** وتبادل للود بين بنيها
وعوائد تهفو القلوب لذكرها ** وثقافة أخلاقهم تحييها
جزی الله شاعرنا أفضل الجزاء، وأطال الله عمره في لطف وعافية، وبارك الله فيه على هذا العمل الجميل والبديع واللطيف والسهل، من خلال هذه البحور التي كتب بها ديوانه شاكرا له سعيه، طالبا من الباحثين ضرورة نقد هذا الكتاب بطريقة علمية أكاديمية منصفة.
وجزاكم الله خيرا أيها الحاضرون والمستمعون ، وأعتذر عن الإطالة، وشكرا لكم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
___________________________________**
- ديوان مرأة الزمان .علي الهوني، مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة ، ط1، 2023، ص 57
- مرآة الزمان . علي الهوني، مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة، ط1 ، 2023 ، ص 68.
- ديوان مرأة الزمان بشير الهوني ، مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة، ط 1، 2023، ص 10
- ديوان مرآة الزمان علي بشير الهوني، مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة، ط1، 2023، ص 70.
- ديوان مرآة الزمان، علي بشير الهوني، مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة، ط1، 2023، ص 14
- ديوان مرأة الزمان علي بشير الهوئي، مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة، ط1، 2023، ص 27.
- ديوان مرأة الزمان علي بشير الهوني، مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة، ط1، 2023، ص 49.
- ديوان مرأة الزمان علي بشير الهولي، مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة، ط1، 2023، ص 73.
- ديوان مرأة الزمان علي بشير الهوني، مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة، ط1، 2023، ص 54.
- دیوان مرأة الزمان علي بشير الهوني، مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة، ط1، 2023، ص 45
- ديوان مرأة الزمان علي الهوني، مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة، ط1 ، 2023 ، ص 40