نجيب الحصادي
مقتطفاتي من “أرسان الروح” أهديها إلى روحه الطاهرة في هذه الأيام المتفرجة .. رحمه الله رحمة واسعة- تجازيه عما علمني من خلق نبيل.
“غير أن الجانب القيمي من الدِّين كان تولَّاه أخي حسين ، الأحرص على حُسن معاملة الآخرين منه، على إقامة الطقوس الدِّينية. كان يصلِّي، دون أن يتنفَّل، وكان يصوم رمضان، ولا يصوم غيره، وما أن بلغت العاشرة من عمري، حتى وقعت تحت تأثيره بالكامل، فغدوت أحاول تقليده في كلِّ شيء، حتى في توقيعه، وفي طرقه الخفيف بوسطى يمناه، وسبابتها على جدران المحلات والبيوت، وهو يذرع الشوارع التي تطلُّ عليها. وكان شخصية مختلفة تمامًا عن شخصية والدي، وكانت سجاياه أقرب إلى نفسي. لم يكن يمتثل، في مواقف بعينها، لأوامر والدي، فمارس دون رضاه لعبة كرة القدم حارسًا لمرمى فريق اتحاد درنة، وقد تفوَّق في حراسته إلى أن وصل إلى منتخب كرة القدم الوطني في الدورة العربية التي أقيمت في بيروت عام 1957. . وكان يؤلِّف المسرحيات الكوميدية؛ لتُعرَض على مسرح نادي الاتحاد، ويقرؤها علينا، أنا وفهيم، قبل عرضها، وكان يسعد بذلك. وقد استهللت أحد كتبي بإهداء إليه قلت فيه:
إلى أخي حسين، الذي علَّمني -بسلوكه المتميِّز- أسمى معاني النزاهة، ولقَّنني -بحرصه على الرضا بالقليل- فنَّ العيش بالحد الأدنى من الطموحات المادية.
وكان روحًا مرحة، مبتهجة، ومقبلة على الحياة، تستمتع بما أحلَّ لها الله من طيبها، وتُمسِك عمَّا حرَّمه عليها. وأذكر أنه كان يشتري كلَّ يوم “شيشة بيبسي”، يقسِّمها علينا جميعًا، بواقع رشفات يحدِّدها “حزّ طاسة شاهي السفلي”، في وقت كانت تباع فيه البيبسي في محل لبيع الخمور؛ ربما لاشتباه الدراونة آنذاك في تَحِلَّتها. وبسببه أصبحت مغرمًا بممارسة الرياضة، والاستماع إلى الموسيقى، ومشاهدة الأفلام، وقراءة الصحف، “الأخبار” و”الأهرام” و”المساء”، وتصفُّح المجلات، “المصور” و”روز اليوسف” و”صباح الخير” و”آخر ساعة” و”الكواكب”، ومتابعة مقالات أنيس منصور، ومحمود السعدني، وقراءة روايات إحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، ونجيب محفوظ، وعبد الرحمن الشرقاوي، وعبد الحميد جودة السحار، ويوسف إدريس.
وأوَّل ما تعلَّمتُ من حسين حُسنُ التعامل مع الزبائن، وكم كان يردِّد على مسمعي أن الزبون دائمًا على حق. تعلَّمتُ منه أيضًا مبدأ الإنصاف، الذي يتبوَّأ رأس الهرمية القيمية التي نشَّأنا عليها الوالد، والذي كان يتجسَّد عيانًا في الميزان. وكان والدي، وأخي حسين يوصياني دائمًا بأن أجعل كفَّة السلعة ترجح بعض الشيء عن كفة “الصروف”، ولكن ليس أكثر من ذلك. وفي حادثة طريفة أذكر أن سيدة أجنبية طلبت كيلو فاصولياء بيضاء (لوبيا)، وكان ثمن الكيلو عشرة قروش، فأعدَّ لها أخي حسين طلبها في كيس أحكم إغلاقه. وكان هناك عددٌ لا بأس به من الزبائن ينتظرون دورهم. ولكن ما أن شرع في الاستجابة لطلبات الآخرين، حتى لمحها تضع الكيس في قفَّتها وتغوص بيدها بطريقة تنبئ متابعها بأنها كانت تفتحه، وتخرج منه حفنةً تسكبها في القفة، ثم تعيد غلق الكيس. بعد ذلك سألته عن ثمن الفاصولياء الموشَّمة، فأجاب بأن سعرهما واحد، فسألته أن يعطيها كيلو فاصولياء موشَّمة بدلًا من كيلو الفاصولياء البيضاء، فما كان منه؛ تجنُّبًا لإحراجها، إلا أن وضع كيسها في كفَّة، ووضع ما يعادله من الفاصولياء الموشمة في الكفَّة الأخرى.
وحين جاء يوسف وهبي، وأمينة رزق لعرض مسرحية في دار عرض رويال، لم يكن هناك من خيار أمامنا، أنا، وفهيم، سوى سرقة ثمن التذاكر من “شكمازة” دكان حسين، بكل المخاطر التي اكتنفها هذا المسلك، والتي أبدينا استعدادًا؛ لتَحمُّلها لأن فكرة أن يأتي عملاقان من هذا الطراز دون مشاهدتهما لم تكن في الحسبان. وكانت مغامرة غير محسوبة؛ لأن ثمن التذكرة خمسة جنيهات، وإذا كان حسين يفتقد من “شكمازته” خمسة القروش، فكيف بخمسة الجنيهات. غير أنه حين رمقنا في الصفوف الخلفية، أدرك الجرم الذي ارتكبنا، لكنه أشاح بوجهه عنَّا؛ فقد تفهَّم موقفنا، وقدَّر بحسِّه الفني المتميز ما ألمَّ بنا.