منصور درميش
كأننا في انتظار بطل رواية لم تكتمل، أو في مأتم بلا معزين، أو في حفل زفاف نُسيت زغاريده في البيت المجاور!
هكذا يبدو السباق الدرامي الرمضاني في ليبيا، سباق لا يركض فيه أحد، ومضمار تملؤه الحفر والركام، وجمهور يحدق في الشاشة بحسرة، كأنه يتفرج على مباراة بلا كرة، أو مسرحية بلا ممثلين.
كل عام، تنطلق الوعود، وتهطل التصريحات كما يهطل المطر في مواسم الجفاف، ثم… لا شيء!
بضعة مسلسلات تُخرجها الصناعة الليبية من غيبوبتها السنوية، فتأتي إلى الشاشة مترنحة كمن خرج تواً من كهفه، بألوان باهتة، وسيناريو مفكك، وحوارات أُصيبت بالرتابة والتكرار، حتى كاد المشاهد يتساءل: هل هو يشاهد مسلسلاً جديدًا، أم أن أحدهم قرر إعادة تدوير الحلقات القديمة وتغيير أسماء الشخصيات فقط؟
المشكلة ليست في المحاولات، فالنوايا الطيبة تملأ السوق، لكن الدراما ليست كرتونة مساعدات رمضانية تُوزع في آخر لحظة.
الدراما صنعة، وتحتاج إلى صناع حقيقيين، لا إلى تجار موسميين يبحثون عن كاميرا وميزانية متواضعة وممثلين يقبلون بالأمر الواقع.
الدراما في ليبيا ليست متأخرة فقط، بل متعثرة، تتوكأ على عصا الماضي، وتحاول اللحاق بركب درامي عربي تجاوزها منذ عقود. هناك حيث تُكتب الأعمال قبل عام، وتُصور في الوقت المناسب، وتُصرف عليها الأموال كأنها مشروع قومي، لا كأنها صدقة على جمهور تائه. أما هنا، فكل شيء يُنجز على عجل، كأننا في سباق مع الزمن، لا مع الجودة، فتخرج الأعمال مشوهة، كأنها مسودات أولى لم تُراجع، وكأن صناعها قرروا أن ينتهوا منها بسرعة قبل أن يداهمهم الهلال.
منذ سنوات، والدراما الليبية تتعثر في الوحل، وتكرر أخطاءها بلا خجل.
نفس الثيمات، نفس النكات، نفس الأداء الباهت، نفس القصص التي كُتبت وكأنها وُلدت ميتة. ومازال هناك من يصرخ بأننا “نتطور”، وأننا “نخطو خطوات مهمة”
هل أصبح الركض في المكان ذاته نوعًا جديدًا من السباق؟
الجمهور الليبي، رغم كل شيء، لا يزال ينتظر. ينتظر معجزة ما، سيناريو محترم، قصة تُكتب بعناية، أداءً يُشعره بأن هناك دراما حقيقية، لكنه في كل رمضان، يجد نفسه أمام مائدة درامية متقشفة.
الدراما ليست مجرد حشو ساعات البث بما تيسر، وليست مجرد ملء الفراغات بين الإعلانات. الدراما هي ذاكرة الشعوب، وهي التاريخ المكتوب بطريقة بصرية، وهي المرايا التي تعكس واقعنا بأحلامه وكوابيسه.
أما ما يحدث عندنا، فهو أقرب إلى مسرح العبث، لكنه ليس عبثًا فنيًا راقيًا، بل عبث ارتجالي لا يدعو إلا للحزن.
ربما، في يوم ما، عندما نتوقف عن التعامل مع الدراما وكأنها وجبة سريعة تُعدّ في آخر لحظة، وعندما ندرك أن الفن ليس موسمًا عابرًا، بل صناعة حقيقية، عندها فقط، يمكن أن نقول إن السباق الدرامي في ليبيا بدأ. أما الآن، فلا شيء سوى حلبة فارغة، ومتسابقين غائبين، وكاميرات تبحث عن قصة لم تُكتب بعد.