محمد الشريف
كانت شمس الصباح تهمس بهدوء على أطراف كييف، تُشعل الطبيعة بألوانها الزمردية ورونقها الذي لا يوصف، الأشجار مصطفة كعازفي سمفونية خضراء، والنسيم يحمل عطر الأرض الرطبة، سلكت الطريق المتعرج الذي يربط كييف بمدينة “بيلي تسركف”، وكان كأنما ينفث الحياة بكل منعطف، حيث السيارات تتماوج عليه كأنه شريط من حرير يلتف بين التلال.. لكن في خضم هذا الجمال، تنبض ذاكرتي بنبض آخر، بنبض وطني.. فجأة وجدتني أرتحل عقليًا إلى مسارب بلادي، حيث الأبيار، المدينة الصغيرة الحاضنة للتاريخ والجمال. الطريق الممتد من بنغازي إلى الأبيار يتسلل إلى ذهني، بدءًا من بنينا بمطارها العريق، إلى الرجمة التي تتربع على المرتفع كملكة شامخة، ثم أبو مريم، وصولاً إلى الأبيار التي تختزن في كل زاوية من زواياها قصصًا وذكريات.
تمر المشاهد كما لو أنني أفتح كتابًا قديمًا مصفر الصفحات أعود إلى المليطانية ، حيث الخضرة التي كنت أسير بين أحضانها مع صديقي الراحل مدحت، نلتقي في بيته الصغير الذي كان يبدو وكأنه قطعة من الجنة، تحيط به المزارع كأنها حراسة أبدية. هنا ضحكنا، وهنا تأملنا في صمت، وهنا تركت جزءًا من روحي لا يمكن أن أستعيده.
أجد نفسي مرة أخرى على أطراف كييف ، ولكن الذكريات تأبى إلا أن تلاحقني .. الطريق المعبد الذي تسلكه السيارات يدعوني إلى استحضار الطرق التي اعتدت سلكها يوميًا بين الأبيار وبنغازي، بين الأبيار والمرج، تلك الطرق التي كانت تحملني بين أحضان الأرض التي أحب، كأنها تقول لي: هنا انتماؤك، هنا معنى وجودك.
وعندما أدركت أنني عدت بذاكرتي بالكامل إلى بلادي، لاحظت أنني كنت أقف أمام محطة الحافلات الكهربائية. توقفت، ناظرًا حولي، كأنما أبحث عن ظل لصديقي أو رائحة تلك الأراضي، هنا، في اللحظة التي أعادتني إلى شارع الجيش الأحمر حيث أقيم، اكتشفت حقيقة واضحة: مهما بلغ جمال العالم، فإن جمال الوطن له طعم خاص لا يعرفه إلا من تغرب.
تسير الحافلة الكهربائية، وأجدني أستند إلى النافذة، أراقب المشاهد، لكن قلبي يبقى عالقًا هناك، بين أزقة المليطانية وخضرة المرج وصخب الأبيار، إنها رحلة الحنين التي لا تنتهي أبدًا.
