محمد العنيزي
( منظر لشاطيء جزيرة ثيرا..وتبدو مركب راسية..ومجموعة من الرجال تنقل الأمتعة إلى ظهر المركب.. وينبعث صوت موسيقى تصويرية ..فيما يجلس في الناحية الأخرى مجموعة من الرجال والنساء من أهل الجزيرة ينتظرون إبحار مجموعة الرجال لتوديعهم..ويدور الحوار بين اثنين من الذين سيقومون بالإبحار..مع انبعاث صوت هدير البحر بعد أن يتوقف صوت الموسيقى التصويرية )
الأول : (وهو ينظر حوله ثم يلتفت إلى صاحبه )
أين باطوس ؟ إنني لاأراه بيننا
الثاني :
لابد أنه في طريقه إلينا..قفد أخبرني أحد الرفاق هذا الصباح بأنه سيزور الكاهنة في موحى دلفي قبل أن يبدأ الرحلة..وأعتقد أنه لن يتأخر كثيرا.
الأول :
ولكن ..ألم يستنبيء وحي الإله أبوللو في المرة السابقة ؟
الثاني :
بلى..وقد أنبأته الكاهنة بأن الإله أبوللو يأمره بالذهاب إلى بلاد ليبيا..لإنشاء مستعمرة
هناك..لكنه أراد أن يزور الكاهنة قبل الرحلة حتى يباركه الإله .
الأول :
وأين تقع هذه البلاد التي أمره الإله بالذهاب إليها ؟
الثاني :
إنها أرض بعيدة عن جزيرة ثيرا..وتوجد في القارة الجنوبية..وقد سمعت أنها أدغال موحشة تسكنها الهوام والوحوش وعفاريت الجن..ويقال أن الغريب الذي يطؤها غازيا يهلك في غاباتها إذا نجا من بطش أهلها..أو يقع فريسة لأنياب الوحوش..وإن نجا من هذا أو ذاك وقع أسيرا في كهوف الجان المظلمة..فيعذبوه معلقا من رجليه حتى الموت..
أما أناسها فهم قبائل رحل أشداء ومقاتلون شرسون لايخشون الموت..لكنهم كرام مع من يحل ضيفا عليهم .
الأول : (خائفا )
لقد أرعبتني يا رجل..فأنا لم أسمع عن هذه البلاد من قبل..ولا أعرف أين تقع..بل لم أغادر ثيرا منذ ولادتي إلى أي مكان آخرمن هذا العالم الفسيح..حدود معرفتي مسكني وحقلي الصغير وأبعد من ذلك قليلا..لكن عندما طاف المنادي شوارع الجزيرة مناديا أهلها أن الإله أبوللو يدعوهم إلى مهمة مقدسة..سارعت ولبيت النداء طائعا..إرضاء للإله ودفعا لغضبه ولعنته ..
(يصمت قليلا ثم يتنهد ويقول بنبرة فيها شيء من الحزن والخوف)
لا أعرف سوى أنني ذاهب في مغامرة مجهولة العواقب..ربما أعود لأطفالي..وربما لا أعود..وقد نضيع في لجة هذا البحر..أونسكن في قاعه إلى الأبد..
الثاني : (مربتا بيده على كتف صاحبه )
دع عنك هذه الأوهام..هل جبنت إلى هذا الحد ؟..أم أنك فقدت الثقة في عناية الآلهة ؟
الأول : (وهو يلتفت ناحية البحر )
لست رعديدا ولاجبانا..ولاأقوى على مشاكسة الآلهة..أوالطعن في قدراتها الخارقة..
لكنه الهاجس البشري..فأنا بشر من قلب وأحاسيس..وكل ما في الأمر هو أنني أتساءل في داخلي.. لماذا تقضي رغبة الإله أبوللو بأرسالنا إلى أرض مجهولة بالنسبة لنا ولا نخبر مسالكها ؟
وفي كل الأحوال ..لا مجال للتراجع عن القيام بالرحلة.. فقد أقسم الثيرانيون على ذلك
..وكل من يرفض أو يتراجع سيكون مصيره الإعدام ومصادرة أملاكه .
الثاني :
لماذا نستبق الأحداث ونتشاءم ؟..كن متفائلا يا عزيزي..ولنقل أن الكأس مليء إلى نصفه..ثم لاتنسى أننا لو رجعنا إلى ثيرا ظافرين فسنكون نحن الذين أسسنا للوطن الجديد..الذي سيتوافد إليه المهاجرون الثيرانيون..ستخلد الذاكرة الجماعية لليونانيين
العمل العظيم الذي قمنا به كمغامرين لبوا نداء الآلهة..وتحققت على أيديهم النبوءة التي نقلتها الكاهنة إلى باطوس..
إنه لشرف لنا أن نكون برفقة هذا الرجل الذي سيخلده التاريخ ويضعه في مرتبة الأبطال..وستحيك الأجيال القادمة حوله الأساطير..فيحيا في ذاكرتها كبطل أسطوري..إنها مشيئة الآلهة..
(ثم يرفع يديه ورأسه إلى أعلى ويقول بصوت عال )
إلهنا يا راعي الشمس التي تمدنا بالضوء..ورب الشفاء والطهارة..سنعبر البحر بمشيئتك..يا سليل الإله زيوس..يا مؤسس المدن والمستعمرات..امنحنا معونتك ..
(يردد معه باقي الرجال بصوت واحد وهم يرفعون أيديهم لأعلى نفس المقطع السابق
ثم يستمر الجميع في عملهم مع انبعاث صوت موسيقى تصويرية..تستمر الموسيقى حتى يرتفع صوت أحد الرجال..)
ها قد وصل باطوس أيها الرفاق ..
( يدخل باطوس مخاطبا الرجال )
باطوس :
أسرعوا أيها الرجال فالوقت لايرحم المتكاسلين..انقلوا الأمتعة وجهزوا المجاديف..فالإله قد بارك رحلتكم..وسوف يرعاكم بعنايته..
(يختفي باطوس في داخل المركب فيما يستمر الرجال في عملهم وينبعث صوت موسيقى خفيفة..ويردد الجميع بصوت واحد )
المجموعة :
مباركة خطوات الرجال ..مباركة أعمالهم
مباركة يا مركب باطوس..
لقد أقسمنا عند المعبد..أن نمضي في الرحلة..
رغم كل الصعاب..ولن نتراجع..ولن نتخاذل
شجعان أبناؤك ياثيرا..في البر والبحر
ارفعي رأسك عاليا..وصلي للإله أبوللو
ليمدنا بالعون ويباركنا..
(يستمر صوت الموسيقى ثم يخفت تدريجيا ويظهر باطوس فوق ظهر المركب يخاطب المجموعة )
باطوس :
ستعبر مركبنا البحر وتتهادى..مثل امرأة لعوب..وسيمنحنا الإله معونته..فيهدأ البحر ولا يرسل أمواجه الكاسرة..ولا يهدر بعنفه القاسي في وجه مركبنا..سنمضي في رحلة ممتعة أيها الرفاق..ونغني لحوريات البحر الجميلات..فيظهرن ويمددن أعناقهن باتجاهنا..وشعورهن مسدلة فوق أكتافهن الناصعة البياض..ويرميننا بنظرات كالسهام الثاقبة..التي تخترق القلوب..ثم يقتربن من المركب ويغازلن الرجال الذين يجذفون بسواعدهم القوية..فتقوى همتهم..وتزداد صلابة سواعدهم وتمرق المركب مسرعة نحو جزيرة كريت..وهناك سوف نستعين بأحد البحارة الذين عبروا بمراكبهم إلى ليبيا..فيدلنا على أقرب المسالك البحرية المؤدية إليها . ( يدخل باطوس إلى المركب ويدور حوار بين رجلين من المجموعة هما خيونيس وليكوس )
خيونيس :
أراك على غير عادتك ياليكوس..وعلامات القلق بادية على وجهك..ماالذي يقلقك يا صديقي ؟
ليكوس :
وماذا أقول ياخيونيس سوى أنني مجبر على الرحيل إلى بلاد أخرى من أجل تحقيق أمجاد لن ننال منها سوى التعب والمشقة .
نحن مجرد فقراء نعيش بحثا عن اللقمة من أجل صغارنا..ولاشأن لنا بوطن يمجد أبناء ثيرا..وسواء كنا في هذه الجزيرة أوفي الوطن الجديد الذي أرادته لنا الآلهة
فلن يغير ذلك من الأمر شيئا .
سيكون المجد لإسم باطوس..أما نحن فلن يذكرنا أحد..وإذا ما تحققت نبوءة الإله أبوللو وكان للثيرانيين وطن في تلك القارة الوافرة الخيرات كما يقولون..فسيبارك الجميع إرادة الإله أبوللو إله المدن..ويقدمون الولاء لباطوس..فيحكم باسم الآلهة ويرفل في الثراء هو وحاشيته.
أما نحن يا عزيزي فلن ينالنا سوى التعب ومشقة ا لإبحار والبعد عن الوطن ..
خيونيس :
أنا أخالفك الرأي ياليكوس..فإذا ما تحققت هذه النبوءة وأصبح باطوس ملكا على الثيرانيين في الوطن الجديد..فلا أظن أنه سينفرد بالحكم وحده..ويسيطر على الثروات ويحرم أبناء وطنه..لأنه إن فعل ذلك فسوف تحل عليه لعنة الإله أبوللو.
ليكوس :
من السذاجة أن ننظر إلى الأمر بهذا المنظور..وأقول لك بكل بساطة أن باطوس حين يتولى الحكم سيفكر أولا في إرضاء الإله أبوللو ويضمن أن لا تحل عليه لعنته..ثم يبدأ في الإستئثار بالحكم ويطلق يده لتبطش بكل من يعارضه .
خيونيس :
وماذا تراه سيفعل لإرضاء الإله أبوللو ؟
ليكوس :
سوف يبني له معبدا كبيرا.. ويقيم له الإحتفالات السنوية التي يقدم فيها القرابين إرضاء له..فيسعد بذلك أبوللو..ويرضى عنه .
خيونيس :
وهل من الضروري أن يكون بناء المعبد من أجل إرضاء الإله أبوللو حتى يغض الطرف عن أخطاء باطوس ؟
لماذا لايكون من أجل أن يبارك أبوللو المستعمرة الجديدة وحمايتها؟
11
ليكوس :
إذا أردت أن أصارحك القول ياخيونيس..فأنا لا أثق في باطوس هذا..وفي ظني إذا ما كنت محقا في ذلك أنه يحمل في داخله طمعا لا حدود له في الجاه والثراء والتعالي على الآخرين .
خيونيس :
أرى أنك مخطيء في حكمك..
ليكوس :
إنها الفراسة يا خيونيس..هكذا يحدثني قلبي..وأرجو أن أكون مخطئا..
خيونيس :
وأنا أرجو ذلك أيضا..
(ينضمان إلى باقي المجموعة ويظهر على الركح شاب يحمل في يده وردة حمراء ..
يتأملها ويشم رائحتها ثم يشرع في مخاطبة نفسه..وينبعث صوت موسيقى خفيفة )
الشاب :
تلك المرأة الثيرانية التي تعبر البساتين وتحمل في يدها سلة من الفواكه..تقابلني كل مساء عند شجرة زيتون عجوز..ترسل نحوي نظراتها الخجولة..وتمد إلي أناملها ممسكة بتفاحة ناضجة..ثم تجلس إلى جواري وتبادلني الأحاديث..
وحين أخبرتها ذات مساء عن رحلتي القادمة مع باطوس..سألتني مندهشة ..
هل سترحل إلى بلاد السلفيوم ؟
قلت لها : لا أعرف أي بلاد هي التي سأرحل إليها
قالت لي : إذا زرت موطن السلفيوم فاحضر لي نبتة منه ..
ومنحتني وردة حمراء..ورفعت رأسها لأعلى وقالت ..لتباركك السماء
(يصمت قليلا ويشم الوردة الحمراء التي في يده..فيما يتقدم ناحيته اثنان من الرجال ثملان..يراقبانه ويتهامسان باستهزاء..ويسترسل في حديثه وهو ينظر باتجاه الجمهور
مع انبعاث صوت موسيقى خفيفة )
الشاب :
أيتها الثيرانية الجميلة
حين تحطين كحمامة
فوق غصني..
أنصت إلى هديلك
ويزهر في نفسي
12
شعور لا يوصف ..
ويرتعش قلبي كعصفور ذبيح
سأرحل وحيدا
دون عينيك ..
وأهجع إلى الأحلام..
كي تأخذني إليك..
أيتها الثيرانية الجميلة
سأعود إليك ..
وأهديك عقدا من أوراق السلفيوم
تضعينه حول جيدك
الوضاء ..
فيشرق وجهك
كأميرة ناعمة..
(تعلو ضحكات الرجلين الثملين اللذين يقفان بقرب الشاب ..ثم يتقدمان نحوه وتبدو على ملامحهما علامات السخرية )
الأول : (وهو يخاطب المجموعة )
ها..ها..ها..ها..ها.. ماذا حل بنا أيها الرجال ؟
انظروا إلى هذا المتيم المسكين..يكاد أن يجن من عشق امرأة ثيرانية ..
ها..ها..ها..ها..ها..
الثاني : (باستهزاء )
أوه……ما أوهن قلبه..إنه لايقوى على الإبحار مع الرجال ..سيدق قلبه بقوة..
وربما سقط مغشيا عليه..ها..ها..ها..ها..ها
الأول : (باستهزاء )
لقد نسي باطوس أن يصحب معه طبيب لأمراض العشق في هذه الرحلة المباركة
الثاني :
تأمل وجهه (وهو يشير إلى الشاب)..ألاترى أن أعراض العشق بادية عليه
الأول :
أجل يا صديقي ..إنها أعراض نوبة عشقية.. وهي غالبا ما تصيب القلب المرهف
بسبب نظرات امرأة فاتنة ..ها..ها..ها..ها..ها..ها
( يشرع الإثنان في نوبة من الضحك )
13
الشاب : ( وهو يصيح فيهما غاضبا )
لاشأن لكما أيها المتطفلان القميئان..فأنتما مجرد عربيدين تمضيان جل وقتكما في حانات ثيرا..وتحتسيان النبيذ حتى تغدوان مثل الخنزير
الأول : (يضحك ساخرا )
ها..ها..ها..ها..هيا حدثنا أيها العاشق الولهان عن حبيبتك الثيرانية ذات العينين الساحرتين..والصدر الناهد..هل ودعتك هذا الصباح بمنديل تمسح به دموعها ؟
الثاني : (باستهزاء )
بل قل إنه هو الذي ودعها عند نافذة بيتها..وكان يبكي مثل عاشق قديم..ويذرف الدموع فوق أرض الحديقة..فتنبت مكان كل قطرة زهرة كئيبة تذكر العاشقين بنار البعاد..ها..ها..ها..ها
الشاب : (وقد ازداد غضبه )
أيها الخنزير القذر..إن رائحة الخمر تفوح من فمك ومن عرق إبطيك..أنت ثمل ولا رغبة لدي في العراك مع عربيد حقير مثلك..إنني أحذرك..هيا ابتعد من هنا وإلا هشمت رأسك..
الثاني : ( تعلو نبرة صوته وهو يترنح قليلا ويقترب منهم الرجال المنهمكون في العمل )
لقد تطاولت كثيرا ..من تظن نفسك ؟
( ثم وهو يرفع قبضة يده ويترنح )..اصمت حالا و إلا سأدق عنقك بقبضتي القوية
الشاب : ( يصيح بصوت غاضب وهو يقترب من الرجل )
بل أنا الذي سأركلك بقدمي على بطنك المنتفخ من شرب النبيذ..وأجعلك تتقيأ القذارة (يخرج باطوس من المركب بعد أن سمع صوت الشجار فيما يلتف الرجال حول الشاب لمنعه وإبعاده عن الرجل الثمل )
باطوس : (غاضبا )
ما هذا ؟..ما هذا الذي أسمعه وأراه ؟..صه أيها الحمقى (يتوقف الجميع ويلتفتون باتجاه باطوس )
كفوا عن هذه البذاءات..لا وقت للعراك لدينا..فنحن في مهمة مقدسة..لا يحق لكم أن ترتكبوا الآثام..عودوا إلى صوابكم..و إلا غضب عليكم الإله أبوللو..لا تعودوا لمثل هذه الحماقات التي تجلب لنا لعنة الآلهة..إنني أحذركم..وليعلم الجميع أنني قائد هذه
الرحلة..وأي مخالفة للأوامر ستكون عواقبها وخيمة..سوف لن أتهاون في معاقبة كل من تسول له نفسه الإساءة إلى الآخرين..أو العمل على تعطيل هذه الرحلة..هيا .. …لينصرف كل إلى شأنه (يتفرق الجمع ويعود الرجال لتجهيز المركب وحمل البضائع إليها ويدخل باطوس إلى المقطورة )
(( غدا تفتح الستار ))

