عفاف عبد المحسن
خطوطٌ بنفسجيةٌ قصيدة نشرت في العام 1975 م .. بتوقيع الشاعر محمود البوسيفي .. لم أقل الصحفي ربما اعتقد القارئ لأول وهلة أنه ليس القيصر .. فهل كان من يعرف القيصر صحفيا مخضرما بين جيلين وأكثر .. شاعر علاقته بالكلمة واللغة العربية وطيدة سلسة .. نعم .. هذا العنوان الذي بدأتُ به خلخلة لمقاربة البعيد بالقريب هو عنوان إصداره الشعري .. وهكذا أُعّلِنَ رسميا .. ميلاد شاعر بثقل وقيمة .. كان يعرف رهيف ما يحمله من مشاعر وكيف يتثاقل بالمعاني والكلمات قلبه .. لتستولد روحه جميل القصائد يعرف هذا من منتصف السبعينيات بعض الصحب داخل وخارج البلاد .. ” محمود البوسيفي ” لم يكن صحفيا علاقته بالكلمة مذ بدأ تعشقا مع المقال والتحقيق والاستطلاع واللقاء في صحف متنوعة .. حتى أصبح رئيس تحرير لعديد الصحف والمجلات .. وأول نقيب للصحافيين في ليبيا .. ففي كتاب عنون (محمود البوسيفي – قيصر الصحافة الليبية – سيرة مدرسة) لمؤلفه أستاذ الإعلام في جامعة أم القيوين الدكتور ” عبد الكريم الزياني ” يصفه المؤلف بأنه :
(( ليس صحفيا عاديًا، فله سيرة طويلة ومسيرة مليئة بالأحداث والإنجازات. ولطالما كان صحفيا وجزءًا من الحدث في آن .. كما أنّه صحفي صاحب موقف )) .
العبرة إذن في اختيار الرفيق الذي يرفعك معه .. يدفعك للأمام .. يبرز أجمل مكامن روحك وعقلك وقلمك .. اليوم ونحن نتصفح كتبا أو مجلات ورقية وصحفا ونحن نقرأ منشورات على الفضاء الأزرق لصحافيات وصحافيين حين يشار إليهم يقال الكبير والقدير نجد ركاكة الصياغة تارة أو هشاشة الفكرة أخرى والطامة حين تكتشف العلاقة الطردية بينهم واللغة العربية مفتاح مهنتهم الصحافية والحزن الذي ينتابك حين تقرأ قولا لكاتبة مستشرقة مثل ( مايا ستينوفا ) البلغارية وهي تقول عن اللغة (( بعد دراستي للغة العربية اكتشفت أن لفمي عقل )) فهل يترك الصحفي فمه الناطق وقلمه الكاتب للغة العربية بلا عقل ؟؟هذا ما يجعلنا نتحدث عن شخصية كما ” محمود البوسيفي ” لعل بعض الحديث عنه الذي لايفيه كثيرا من قيمته يحفزهم يدفعهم ليكونوا بالفعل صحفي كبير .. مثقف له ثقل .. شاعر جهبذ .. إذاعي مفوه .. خطيب قدير .
كي يعرف القارئ لماذا استرشدت واستشهدت وأنا أتحدث عن البعيد والقريب بمؤلفه الشعري عنوانا وبقصيدته الشعرية معنا لتمعين الرؤى لحدث بعينه ولشخص بعينه أقتبس جملا عَرَّفَتْهُ قال صاحبها فيه (( مثقف استثنائي بكل ما تحمل هذه الصفة من معنى.. خصوصاً في تكوينه المعرفي الباذخ، ورؤيته الواسعة للثقافة وأسئلتها القلقة.. إضافة لذائقته الانتقائية وذكائه الاجتماعي. )) .
فكيف هو الصحفي اليوم . الكاتب اليوم .. !!! أيتتبع خطى من سبقوه ليس بالبعيد ؟ أيرغب في الاستزادة من زملاء لديهم إبداعاتهم التي من شأنها أن تثبت خطواته في مجال اختاره لا أدري بحب وشغف أم لأنه عمل يتقاضى منه راتبا وهذه القشة الفاصلة !!! فالصحافة عمل إبداعي ومطلقا ليست مهنة يمتهنها شخص عادي لا يحمل جينات الإبداع فطرة أو اكتسابا … فهل يعتبر صحفي اليوم متقبلا النصح والإرشاد أم يتعنت متشبثا برأيه أنه على صواب بينما الآخرين يحاولون إحباطه وتحجيمه وهكذا تسقط عليه حكمة ربانية ” أخذته العزة بالإثم ” نعم لأنه هنا آثم في ظن السوء بالآخرين وفي نفسه أنه وصل للأستذة ولا يحتاج لمن يصحح مساره وأخطاء الصحفي فادحة إذ تتمثل في ” الإملاء . التركيبة الخبرية أو الأدبية حسب مايكتب . التسرع دون الوقوف على معلومات كافية حول من وما يكتب ” وللأسف من هؤلاء وتينك نقابل كثر في المجال كل يوم.
ألا تحب أيها الصحفي أو الشاعر القادم من منابع عصر السرعة والسطحية أن يقال عنك هذا .. صاحبنا العلامة والإشارة والمعنى والدليل لأهل مهنته مهنة المتاعب والمشاكل .. في منتصف السبعينيات كتب مواسيا الوطن في ربت على قلب الشاعر المصري الصعيدي ابن قرية القلعة المنبعث من سلالة أزهرية بخلفية دينية كما خلفية وطنية تعشق تراب مصر كما تراها في وطن عربي واحد كلما ألم به ألم ومعاناة غز الوجع قلوب الشعراء الذين لا يملكون إلا الكلمة المقاومة أو المطبطبة فكان أن قال له في قصيدة عنوانها خطوط بنفسجية .. تقول بعض أبياتها (وطني والمساءُ الحزينُ … القادم // عبر الكهوفِ الموحشة .. // والعوسج الملعون .. وخروج الصباحِ // الميت خارج دوائر … اللعبة …)
هو أوّل نقيب للصحافيين في ليبيا .. تكلم عنه الشاعر مهدي التمامي قائلا : مثقف استثنائي بكل ما تحمل هذه الصفة من معنى.. خصوصاً في تكوينه المعرفي الباذخ، ورؤيته الواسعة للثقافة وأسئلتها القلقة.. إضافة لذائقته الانتقائية وذكائه الاجتماعي.


هؤلاء الذين نتتلمذ عليهم حين نقترب منهم دارسين خطوهم لعلنا نكونهم أو بعضهم نجد أن مدارسهم عميقة لم يقبلوا بالسطحي من أي شيء وكل شيء فكانوا كما نعرفهم الآن .. اللغة العربية ليست من أولويات المذيع والصحفي والمحامي والقاضي وحتى رئيس الدولة رغم أنها وسيلة كل هؤلاء وكثر آخرين للوصول لإقناع الناس وترتيب خطاباتهم .. أما القيصر فلم يكن واحدا ممن تركوها لتتركهم لغته الصحفية تختلف عن الشعرية الشاعرية وفي كلها امتلك زمام الكلمة وعرف أين يضعها في مكانها لتمنح من مكمنها مراميها للقارئ .. كما في الغربة كيف عبر عنها مبتكرا من اللغة حكاية مختلفة عن الغربة يقول :
(الغربة .. أن تقترب وأنت البعيد .. أن تبتعد وأنت القريب)
(الغربة .. أن تبتكر حديقة دون عطر ..)
(الغربة .. تغوّل الحنين ..)

وكما بدأت بعبارة له .. عنوان كتابه وعنوان قصيدته الدانة .. جميل أن أستعير ختامي من محمود البوسيفي القيصر الشاعر حيث إهداءً كماه مختلف مميز .. لديوانه الشعري الذي تتسامى فيه اللغة العربية وتتمايل قصيدة الومضة كما نعرفها بالعربية وشاعت بين شعراء الحداثة والتحديث والهايكو المستنبط من الشعر الياباني قصير المقاطع محكم المعاني والدلالات كما في هذا الاعتراف المنمق الرقيق المتكامل (رويتُ لها حكاياتٍ كثيرةً // وأعترفُ الآن أنني لا أذكرُ // سوى أنني كنتُ أقولُ لها // متلعثماً في فصاحةٍ … أُحبُّـك) .. ربما كانت خلخلتي في الكتابة عن هذا الفاره المبهر ليست نقدا كما هو النقد ولكن سبرا لمحتوى شخص وشخصية وكاتب صحفي وشاعر وإنسان في آن من يعرفه عن بعد ضيع الكثير ومن حالفه الحظ واحتفى بتواقيت معه ساردا حاكيا جادا أو متبسطا ومن استمع بتمعن للبوسيفي مستفيدا بما يملك من ثقافة رفيعة المستوى فقد نال جائزة وهدية عليه أن يتباهى بها أمام الرفاق .. أتمنى أن أنالها بعض يوم .. هكذا تختزل اللغة في معاني دقيقة عندما يتخير الكاتب الشاعر كيف تتبلور جمله والعمق يدفعه ليهب الدارسين والمريدين أكثر إذ كتب إهداء فيه معاني الطاعة كما أمر الله والبر الذي يجب أن يقدم .. وشرح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف بحق الصحبة أمك ثلاثا ثم أبوك : (إلى أبي مرةً أخرى … إلى أمي دائماً) .. هكذا كان مدرسة كما قال عنه الدكتور عبدالكريم الزياني الذي سرد سيرته مسببا جمعه هذا الكتاب المهم الذي يحتوي على جزء أكاديمي إذ كتب موضحا : فن البورتري الصحفي من الفنون الصحفية الثقيلة وهذا الكتاب انطلق من عشقي لأسلوب الصحفي ( محمود البوسيفي ) الذي تربع على عرش صاحبة الجلالة .. وأعلن أنه لم يسبق أن أبهرني صحفي ليبي بحديثه مثلما فعل البوسيفي ولهذا قررت أن القيصر يستحق أن تخلد سيرته للأجيال القادمة .
_____________________ **
معنى فن البورتري الصحفي : نمطٌ صحفي يندرج ضمن فن التقرير، يسعى لرسم ملامح شخصية معينة تؤثر في بعض الأحداث، ويتضمن معلومات توضح أهم المحطات والتفاصيل التي قادت الشخصية إلى المكانة التي وصلت إليها .