الجزء الثاني
رامز النويصري
كتب الأديب رامز النويصري مقالته في العشرية الأولى من الألفينيات فهل اختلف الحال ياترى حول النّقـد والنّـقـاد؟ .. إذ كانت قراءة في واقع الكتابة النقدية في التجربة الإبداعية الليبية وقد اعترف أنه في مأزق إذ وضع نفسه في دائرة غير محددة المعالم بل وملبدة أجواؤها .. هل صفت الأجواء في 2025 م .. وكيف رآها بقراءة الناقد المتعايش لحالة الأدب في ليبيا ؟
على جزئين سنقرأها معا مضطلعين بإمعان على دراسة مهمة جاد بها للمكتبة الثقافية النقدية شاعر ومدون وكاتب يعول على النقد الأدبي لتصحيح مسار الآداب بمشاربها في بلادنا .
___________________________
لكن ما الذي دفع بهؤلاء لكتابة النقد، وهم كما تقول ، يمارسون كتابة النص؟
ـ أولي هذه الأسباب .. هي محاولة سد الفراغ الحادث في العمل الإبداعي، وكون البعض كان علي اطلاع بشكلٍ أو بآخر علي ما قدم من جهود نقدية عربية وعالمية، فإنهم في إعادة تمريرهم لقراءاتهم من خلال هذه المعارف، كان أن تكونت مجموعة من الالتقاطات والأسئلة، فلم يكن من سبب يمنع طرحها وتقديمها من باب الإجابة. ـ ثانيها، هو رغبة تحول الشفاهي إلي موجود. فطابع المشافهة الذي يسود المناخ الثقافي في ليبيا المعتمد علي التعليقات المصاحبة للمناشط الثقافية، أو القراءات الخاصة، كان يوجب أن تتحول هذه المحاورات إلي متن مكتوب. وأستطيع الزعم أن ما نسبته 70% من شعراء ليبيا مارسوا العمل النقدي، بينما ما نسبته 30% من كتاب السرديات مارسوا النقد. بل إن بعض الشعراء ممن مارس الكتابة النقدية كتب في القصة والرواية. ـ أما ثالث هذه الأسباب وآخرها، الطابع الشمولي في الثقافة العربية، وهو طبع يعود للعصامية التي قامت عليها الثقافة العربية في رموزها الإبداعية، وهو صنو التجربة في ليبيا، فالمثقف الليبي نشأ عصامياً منفصلاً، فكان من الطبيعي أن يحاول الإحاطة بكل ما حوله، وأن يمارس ما يمكنه من أجناس إبداعية، وأنماط تعبيرية أخري، فالتجربة الإبداعية الليبية تعرف الكثير ممن يكتب الشعر والقصة، أو الشعر والرواية، أو الشعر بشقيه الفصيح والعامي، وإن نظرة عجلي للصفحات الثقافية في الصحف والمجلات الليبية تكشف نسبة مساهمة الكتاب في مادة هذه الملفات النثرية من: مقالة، ونقد، وتعليق، وترجمة، وغيرها، في الملف الثقافي لصحيفة (الجماهيرية) مثلاً وصلت نسبة مساهمة الكتاب (من كتاب شعر وقصة) إلي 90% من مادة العدد يشكل الشعراء النسبة الأعلى. 5 السؤال المفترض الآن: هل استطاعت هذه الكتابات النقدية أن تقدم شيئاً؟ بكل راحة أقول: نعم. وهنا أفترض أن يعلق السائل: إلي أي مدي؟ أجيب: بنسبة 100%.أري الاستغراب بادياً في وجه السائل: كيف؟أجيب: قياساً لعمر التجربة والكم المنتج في هذه التجربة (بالنسبة للزمن)، فإن ما قدم من نتاج قياساً لما قدمناه من ظروف يكون 100%، العملية نسبية، فالأسئلة النقدية طرحت منذ فترة طويلة، فشاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي يكتب في مجلة (ليبيا المصورة)13 مقالة بعنوان (المتجبرنون 1937) ناقداً فيها أسلوب جبران خليل جبران في تلاميذه المحليين، هذا المقال في رأيي حقق نجاحه في مستويين: الأول/ كونه رصد تأثر مجموعة من الكتاب بأسلوب جبران ، وبالتالي توجه مباشرة إلي نقد هذه التجربة في مكوناتها (المكون المعرفي). الثاني/ أنه قدم ما يمكن أن نسميه مقابلاً إبداعياً، بأن طرح المدرسة الشرقية كبديل (يقصد شعراء مصر).إن النتاج النقدي المقدم، سواء المطبوع في كتب، أو الموزع في الصحف والمجلات والدوريات، يقدم متناً جيداً، وقادراً علي تقديم صورة عامة وقريبة من التجربة الإبداعية الليبية. أسأل نفسي: لماذا قلت صورة عامة وقريبة؟، لماذا لم أقل مثلاً: صورة التجربة الإبداعية؟. الحقيقة التي تفرض نفسها أن هذا النتاج يشكو من بعض الإشكالات:1 ـ أولي هذه الإشكالات الانعزال والاستقلال/ فهذه الكتابات النقدية هي كتابات معزولة عن بعضها ومستقلة بما قدمت، بمعني أن هذه النصوص لم تخلق تراتبية فيما بينها ولم تستفد من بعضها، أي أن مبدأ التواطؤ لم يجمع فيما بينها لخلق حوارٍ منتج.فلو نظرنا مثلاً لما قدمه مفتاح العماري في كتابه (فعل القراءة والتأويل) ورصده للتجربة الشعرية في ليبيا، لوجدناه يتقاطع وما قدمه إدريس المسماري في كتابه (حدود القراءة)، وما قدمه أحمد الفيتوري في كتابه (قصيدة الجنود). تلتقي هذه الكتابات في رصدها للبدايات واللحظات الحرجة في مسيرة الشعرية الليبية، وكذا تخلص لذات النتائج، وكأن كُلاً منهم يسعي لكتابة مسيرة التجربة من وجهة نظره، وإن كنت أري أن هذه التجربة لا تحتمل وجهات النظر الكثيرة.2 ـ ثانيها، النظر من الخارج/ فهذه الكتابات حتي وهي تتبع مسيرة التجربة الإبداعية لم تعمل علي النصوص، بمعني أنها أقصت النص كشاهد، مكتفية بحضوره كصورة، بمعني أن النص يطرح كصورة للمرحلة، لا كشاهد يمكن استجوابه والغوص فيما يملكه من شهادة. واستخدمت مفردة الصورة، كون النص النقدي لا يحاول استثارة الشاهر إنما يكتفي منه بما يقول فقط، فلا يقف عند دقائقه أو تفصيلات القول إلا في مجرد التعليقات، عند استخدام المفردات أو إعادة إنتاج الصور. ومن الدراسات الشعرية المهمة في هذا الصدد، دراسة الكاتب خليفة التليسي حول شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي الصادة في 1965، ويكاد يكون هذا العمل الوحيد الذي تناول شاعراً ليبيا بهذا القدر من الجهد والعمل، فكأننا نلمس قلة صبر ومثابرة الكتابات النقدية عن تقديم نماذج تحليلية لما قدمته من طرح.3 ـ الانطباعية/ وهي ثالث إشكالات الكتابات النقدية، فهذه الكتابات تخضع لذائقة الناقد لا منهجه، وبالتالي فإن هذه الكتابات لا تخضع لأي منهج نقدي أو تنظيري (باستثناء الدراسات الأكاديمية، وبعض الجهود الحالية)، فهي لا تتعامل مع النصوص بذات القدر من الانحياز الذي يتطلبه العمل النقدي14، إنما يظهر الانحياز بكل وضوح، في الانتقائية التي يتعامل بها الكاتب مع النتاج المطروح. وهذا يعيدنا لما قلته سابقاً من أن هؤلاء النقاد هم كتاب نص غير متفرغين للعمل النقدي، بالتالي يقعون كمتلقين في مطب الإعجاب والانبهار بالنص. 6 ماذا بعد.. حتي لا يطول بنا حبل الكلام، فنضيع، أفضل التوقف هنا، خالصاً: أن الجهد النقدي المقدم والموازي للتجربة الإبداعية في ليبيا، هو جهد نقدي مميز في مادته (كمتن)، استطاع رغم كل شيء من الاقتراب من النص، وأنه استطاع رصد لحظات التجربة الإبداعية المهمة وكشف مناطق السخونة فيها، وهو وإن عاني من قصور، إنما قصور المحاولة، التي تعقبها خطوات أكثر وأكثر، وسيكون للغد رأي آخر، خاصة وأن بعض الدراسات الأكاديمية 15 التي تتناول التجربة الإبداعية في ليبيا صدرت في السنتين الأخيرتين، وهي تساهم بقوة في رفد التجربة. وأجد نفسي أختم بهذا المقطع للشاعر الليبي عاشور الطويبي :فالسماء مكتنِزة بالنجوم..بعضها مُبهِر.. بعضها (باهشأرقب) الـمشهد العظيم……..أحاول أن أفهم..لكن هذا لا يتأتى فـي اتكاءةٍ واحدة ہ شاعر وكاتب من ليبيا هوامش:1 ـ دخل الإيطاليون إلي ليبيا في تشرين الأول (أكتوبر) ـ 1911، واستمروا بها حتي هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية، إذ خضعت البلاد للبريطانيين. ولا ننسي ما تعرضت له البلاد من قبل تحت الحكم العثماني.2 ـ (إبراهيم الكوني يلخص العملية النقدية في ليبيا/ حوار مع الناقد أحمد الفيتوري / حاوره: رامز النويصري) صحيفة الجماهيرية ـ العدد :4123 ـ التاريخ: 9 ـ 10/10/2003.3 ـ المصدر السابق.4 ـ نشير إلي أن بعض هذه الدراسات فاز بفرصة النشر، أما الأكثر فيظل حبيس المكتبات الجامعية رغم توصيات النشر التي تلحق إجازات هذه البحوث.5 ـ نعني بليبيا الكيان والإقليم المحدد جغرافياً بالحدود والمظاهر الطوبوغرافية.6 ـ أما أولي الصحف الخاصة فهي (الترقي) لصاحبها محمد البوصيري سنة 1897.7 ـ علي الرقيعي (الحنين الظامئ) منشورات الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان ـ طرابلس/1979/ ص 22.8 ـ المصدر السابق ـ ص 23.9 ـ 5 ـ سليمان سالم كشلاف (الشمس وحد السكين.. مقالات في الأدب) الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان ـ مصراتة/7 ـ 1998.10 ـ رامز رمضان النويصري (مقال: في مصطلح الجيل) صحيفة الجماهيرية ـ العدد :4466 ـ 19 ـ 20/11/2004 ـ ص 13.11 ـ عرفت هذه الفترة انتقال الكثير من الغرب إلي الشرق، وبالعكس، وأيضاً اتجاه الكثير للمدن خاصة طرابلس وبنغازي بشكلٍ خاص، لتأتي من بعد مرحلة النفط في ستينيات القرن الماضي ليترك الكثير قراهم ونجوعهم باتجاه الذهب الأسود.12 ـ رامز رمضان النويصري (مقال: في مصطلح الجيل والمجايلة) صحيفة الجماهيرية ـ العدد :4472 ـ 26 ـ 27/11/2004 ـ ص 13.13 ـ لم أتمكن من الاطلاع علي هذا المقال، وما أورده في هنا هو ما تناولته بعض الكتابات.14 ـ لا أستطيع أن أبرئ نفسي من الوقوع في هذه الدائرة، فيما قدمته من قراءات وكتابات نقدية.15 ـ رغم ما تتمتع به هذا الدراسات من طابع أكاديمي، إلا أنها في منهجها تقدم نوعاً من الحياد، والقراءة العميقة للنص والتجربة في عمومها.