خالد السحاتي
من المعروف أن المقالة الأدبية لون من أهم ألوان الكتابة الإبداعية ذلك أنها تعد وسيلة اتصال شبه مباشر بين الكاتب والمتلقي، حيث يطرح من خلالها الكاتب أفكاره ورؤاه وتصوراته لجملة من القضايا المختلفة في كافة المجالات. على أن يكتفي في كل منها بظاهرة محددة فيأخذها كنقطة ابتداء، وينسج حولها معالم تلك الصورة الماثلة في ذهنه، بأسلوب يتدفق موضوعية ودقة وبساطة وتشويقا، فأدب المقالة من ضمن الفنون الأدبية التي تمتاز بالتعبير عن الغرضية والتفاعل معا؛ بمعنى أنه شكل اتصالي ينطوي على القصد أو التدبير، كما ينطوي على التفاعل أو المشاركة.
كما أن هذا الأدب يكتسب مدلولا حضاريا بوصفه نشاطا يهدف إلى غايات عقلية ثقافية، ترتكز على الحوار البناء، وطرح الأفكار بأريحية وموضوعية ووضوح؛ بمعنى أن تكون اللغة التي يكتب بها سهلة ميسورة، تبتعد عن التعقيد والغموض، بحيث تؤدى الفكرة من أقرب الطرق دونما مراوغة أو ابتعاد عن لب الموضوع، وبعبارات قوية متماسكة، ومستوى التبسيط الذي أعنيه هو الذي يجعلك تتحدث عن أهم القضايا الأدبية بأسلوب موضوعي يفهمه أغلب القراء من دون الإخلال بجوهر الموضوع المطروح للنقاش، فالمقالة تقريرية وليست انفعالية، وهي بسبب ذلك تحتاج إلى ترو وهدوء، وترتيب محكم للأفكار والمعلومات، ولذلك فإن الكاتب المبدع هو الذي يحاول دائما أن يرتقي بقرائه، لا أن ينزل هو إليهم بخطاب يريد له أن يكون في متناول الجميع، فالجمع بين طرفي هذه المعادلة وإن كان من الصعوبة بمكان إلا أنه وحده الكفيل بحماية الكلمة الهادفة من السقوط في فخ السطحية غير المبررة في كثير من الأحيان، وهذا يذكرني بقول ( جان جاك روسو): “مهمة الكاتب أن يحول القارئ إلى متلق حر، لا أن يتحول هو إلى كاتب مقيد”، وحتى في أقدم العصور كان المفكرون يعتبرون أن المعرفة الواضحة هي أساس الفضيلة، وعرف العرب البلاغة بأنها: “بلوغ المعنى بأقل الكلمات”، ولذلك فإن تقديم المادة الأدبية في صورة واضحة ومبسطة، وخالية من التعقيد ومشوقة في الوقت ذاته من شأنه أن ييسر التواصل مع جماهير القراء، ويؤدي إلى وصول تلك الأفكار والرؤى إليهم بوضوح وموضوعية.
وإذا بحثنا عن معنى كلمة “مقالة” في المعاجم والقواميس المتخصصة فسنجد تعريفات عديدة لها، فعلى سبيل المثال تعرف دائرة المعارف البريطانية المقالة الأدبية بأنها: “عبارة عن قطعة مؤلفة متوسطة الطول، وتكون عادة منثورة في أسلوب يمتاز بالسهولة والاستقرار، وتعالج موضوعا من الموضوعات، ولكنها تعالجه – على وجه الخصوص- من ناحية تأثر الكاتب به”. وفي المعجم الأدبي لجبور عبد النور تعرف المقالة عدة تعريفات منها: “أنها بحث موجز يتناول بالعرض والتعليل قضية من القضايا، أو جانبا منها. وتتميز المقالة بالتركيز على المعنى، وبوضوح العرض، والانتهاء، في معظم الأحيان، إلى محصلات بارزة ترسخ في أذهان القراء. كما تعرف بأنها الرأي الذي يبديه الكاتب أو المفكر، ويكون عادة معبرا عن موقف خاص به”.
وفي هذا السياق يرى آرثر بنسن أن: “المقالة الأدبية شيء يصنعه الكاتب بنفسه، والعبرة ليست بالموضوع- لأن أي موضوع قد يفي بالغرض- بل العبرة بسحر الشخصية، إن المقالة قد تدور حول شيء مما أبصره المؤلف أو سمعه أو تصوره أو اخترعه أو توهمه، ولكن المهم أن يكون قد ترك في نفس الكاتب أثرا خاصا، تكونت في ذهنه منه صورة خاصة. ويتوقف جمال المقالة على جمال الفكر الذي تصور، ثم تسجيل ما تصوره. فالعبرة هنا بأن يحس الكاتب إحساسا قويا بموضوعه، وأن يعبر عنه بعبارات قوية رائعة”. ثم يخلص ذات الكاتب إلى أن المقالة تعبير عن إحساس شخصي، أو أثر في النفس، أحدثه شيء غريب أو جميل، أو مثير للاهتمام، أو شائق، أو يبعث على الفكاهة والتسلية. وهكذا، فالمقالة تمتاز بما يتيحه النثر من الحرية، واتساع الأفق، وبمقدرتها على أن تتناول جوانب عديدة تتناولها فنون أخرى كالشعر والقصة القصيرة وغيرهما..
وما أجمل تلك الكلمات التي وردت في كتاب “الغربال” لميخائيل نعيمة عند حديثه عن كتاب (الفصول) لعباس محمود العقاد حيث جاء فيه ما نصه: “إنما الكاتب قلب يخبر، وعقل يفكر، وقلم يسطر، فحيث لا شعور فلا فكر، وحيث لا فكر فلا بيان، وحيث لا بيان فلا أدب. الشعور والفكر والبيان ثلاثة لا يكون رجل كاتبا إلا إذا توافرت له أكثر من توافرها لسواد إخوانه في البشرية، ولولا تفاوت الناس بعمق الشعور واتساعه، وحدة الفكر واندفاعه، وجمال البيان وجلائه، لكان كل من عرف القراءة والكتابة كاتبا”. واستنادا إلى هذا الرأي يمكن القول أن الكتابة مكابدة واجتهاد متواصلين، ينتج عنهما أعمال جيدة رصينة، ينعكس فيها إحساس الكاتب، وفكره، وثقافته، وإبداعه، فما خرج من القلب وقع في القلب كما يقال، ولذلك، فالعنصر الشخصي يمثل ركنا أساسيا من أركان المقالة، ويعتبر صفة مهمة من صفات هذا الفن الأدبي الرائع. فالغاية من الكتابة كما يرى آرثر بنسن أن يحس الكاتب إحساسا عميقا بصفات الأشياء، وبسحرها، ويلقي عليها نورا واضحا رقيقا، لعله يستطيع بذلك كله أن يزيد الناس حبا في الحياة، وأن يعدهم لما اشتملت عليه من المفاجآت المفرحة والمحزنة. وهنا يرى الدكتور عبد العزيز شرف في كتابه (التفسير الإعلامي لفن المقالة) أن من أهم ما يعنى به كاتب المقالة لكي يؤثر في نفوس القراء ذلك التأثير البالغ:”أن يجعل كلماته وعباراته، والأفكار التي تعرض لها، موجهة كلها لإبراز الفكرة الأساسية وإيضاحها. ولابد من تجنب الحشو، واستبعاد كل عبارة يسبق بها القلم، ولا تؤدي وظيفة جوهرية في إبراز تلك الفكرة الأصلية”. بمعنى أن يوجه الكاتب جهده لتوضيح فكرته الرئيسية، بكل السبل الممكنة في مقالته، كأن يضرب الأمثلة، أو يستشهد بقصة معينة، أو رأي علمي ما، بأسلوب واضح ومشوق، وعبارات سلسة واضحة للقارئ.
أما عندما يكتنف الكتابة الأدبية (المقالة بصفة خاصة) الغموض والتعقيد فإن ذلك من شأنه أن يحول دون أدائها لدورها ووظيفتها، باعتبارها بقعة ضوء في طريق المعرفة، وأعتقد أن ذلك أصبح سمة بارزة لعصرنا، ففي وجود الشبكة العنكبوتية العالمية (الإنترنت) وما تحويه من كم هائل من المعلومات والمعارف بمختلف صورها وتخصصاتها، وابتعاد كثير من الكتابات المنشورة على صفحات الشبكة عن الموضوعية والوضوح (وذلك بالطبع لا ينفي وجود كتابات رصينة) أصبح المتلقي ينصرف عن كثير من الكتابات الجادة؛ لأنها في نظره جامدة وغامضة ومملة، ويقبل على الكتابات المبسطة، والتي يكون أحيانا تناولها للمواضيع الهامة سطحيا، وقد يترك هذا المتلقي القراءة نهائيا في وقت ما، ويتوجه لمواقع الترفيه والدردشة، أو إلى مشاهدة البرامج الفنية التي تقدم له ما يريد في قالب مشوق ومفيد في آن واحد، كل هذه المعطيات ألقت على كاهل الكاتب واجب تقديم إبداعه بالشكل الذي يمكن به استيعابه ومتابعته بسلاسة ويسر، وهذا يعني أن هذه الاعتبارات تفرض على أصحاب القلم والفكر واجب طرح القضايا بوضوح وموضوعية وتبسيط لتقريب الصورة المراد طرحها، مع عدم الإخلال بالمعنى أو البناء العام للمقالة، ودونما تعقيد أو غموض؛ لأن المتلقي اليوم (في عصر يوصف بأنه عصر الفضاءات المفتوحة) أصبح في وعي وإدراك كبيرين لما يقدم له، مما يحتم علينا أن نفكر جديا فيما نقدم له من مادة أدبية أو صحافية متنوعة، ونركز على عنصري التشويق والفائدة العامة، ونحن نذكر بالتأكيد تلك المقالات المهمة التي كان يكتبها كبار الأدباء والكتاب العرب أمثال: عباس محمود العقاد وإبراهيم المازني وميخائيل نعيمة ومصطفى صادق الرافعي ومصطفى لطفي المنفلوطي والصادق النيهوم وغيرهم، ممن نهضوا في عصرنا بفن المقالة الأدبية والصحافية، وارتقوا بها لمنزلة قيمة بفضل ما تميزوا به من أقلام رصينة وجادة وموضوعية.