يشهد متحف سوسة الأثري هذه الأيام واحدة من أهم عمليات الترميم والتأهيل في تاريخه، ينفذها المركز العالمي لدراسة العمارة لحوض المتوسط بالتعاون مع مصلحة الآثار الليبية، وبتمويل من مؤسسة أليف لحماية التراث لبناء السلام، وذلك بعد الأضرار الكبيرة التي لحقت بالمبنى التاريخي جرّاء إعصار درنة عام 2023م.
المتحف، الذي يعود بناؤه إلى فترة الاحتلال الإيطالي حين كان مقرًا للمتصرفية، ثم تحوّل لاحقًا إلى مدرسة فنادٍ اجتماعي، افتُتح كمتحف لأول مرة سنة 1983م، وقد شملت أعمال الترميم الحالية معالجة المشكلات الإنشائية والرطوبة، وصيانة مرافق المتحف وفق المعايير الدولية باستخدام مواد خاصة بالمباني التاريخية.
ويشرف على تنفيذ المشروع خليل عبد الهادي رئيس المركز العالمي لدراسة العمارة لحوض المتوسط، والخبيرة الإيطالية مارينا كابيلّينيو، فيما تابع وفد من مصلحة الآثار برئاسة أحمد فرج مراحل العمل ميدانيًا، وأشاد بجودة الإنجاز ودقة أساليب الترميم المعتمدة.

يحتوي متحف سوسة الأثري على مجموعة متنوعة من المقتنيات النادرة التي تعكس تعاقب الحضارات على ليبيا منذ العصور الإغريقية والرومانية وحتى الإسلامية. يضم المتحف مخطوطات عربية وإسلامية تعود إلى القرن الثامن الهجري، وقبرًا رومانيًا أُعيد استخدامه في العصر المسيحي، إلى جانب آثار رومانية من القرن الثاني الميلادي تُبرز الجانب الفني والمعماري لتلك الحقبة. كما يضم لوحة فسيفساء من الموزاييك جُلبت من كنيسة رأس الهلال التي تحولت إلى مسجد بعد دخول الإسلام إلى ليبيا في القرن السابع الميلادي، فضلًا عن قطع فخار ثمينة ورسومات لأعياد إلهة أثينا التي كانت تُقام كل أربع سنوات في العهد الإغريقي.


وفي قاعة العصر البيزنطي التي تعود إلى القرن السادس الميلادي، تُعرض لوحة فسيفساء تُصور النبي وهو يطلق الحمام الزاجل، إلى جانب أحجار حدود للأراضي الزراعية منقوشة باللغتين الإغريقية واللاتينية تعود إلى العهد الروماني في القرن الثامن الميلادي. كما يضم المتحف مجموعة من المصابيح الملونة الإغريقية والرومانية والبيزنطية، وقطعة فنية مميزة هي تمثال لسيدة منحنية تفتح صندوق ملابسها، يعود إلى نهاية القرن الخامس قبل الميلاد ويُعتقد أنه يجسد طقسًا وثنيًا قديمًا.


في تصريحات إعلامية سابقة قال مسؤول مراقبة الآثار ناصر عبد الجليل أن مدينة سوسة، التي أُسست في القرن السابع قبل الميلاد، كانت من أكثر المدن التاريخية تهميشًا خلال العقود الماضية، رغم قيمتها الحضارية العميقة. ويشير إلى أن النظام السابق حاول الترويج لفكرة أن الآثار رموز للاستعمار الإغريقي والروماني، وليست جزءًا من الهوية العربية أو التاريخ الوطني، ما ساهم في تقليص الوعي بأهميتها الثقافية. وأضاف أن بعض فئات الشباب ما زالت تنظر إلى الآثار من منظور ضيق، دون إدراك قيمتها الفنية والتاريخية المرتبطة بجذور الأجداد.
وتُعد سوسة، الواقعة على ساحل البحر المتوسط في منطقة الجبل الأخضر على بُعد ثلاثين كيلومترًا شرق مدينة البيضاء، واحدة من أبرز المدن الأثرية الليبية، وقد شُيّدت على أنقاض مدينة أبولونيا القديمة التي تُعد متحفًا مفتوحًا يعكس تاريخ المنطقة الممتد عبر العصور.










