يونس الفنادي
لم ينتظر الشيخ محمد المبشر حلول السادس من شهر نوفمبر الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ سنة 1996م يوماً عالمياً للتسامح والتصالح تعزيزاً وتوطيداً لأهم القيم الإنسانية التي ترسخ أسس التعايش السلمي وتوطن مشاعر الألفة والمحبة والاحترام بين الأفراد، والسلام وحسن الجوار بين الأمم باعتبار أن التصالح والتسامح هما الطريق الأساسي لبناء ذات الإنسان وتطويره فكرياً، واللبنة الأساسية لانسجام الكيان المجتمعي بجميع شرائحه ومكوناته داخل الوطن الواحد لتحقيق الأهداف التنموية الوطنية الشاملة.
ولم يبحث الشيخ محمد المبشر في كتاب (رسالة التسامح) لأحد أبرز رواد عصر التنوير في فرنسا الأديب فولتير، ولا كتاب (التسامح في الإسلام) للأديب الفلسطيني شوقي أبو خليل، ولا (التسامح أعظم علاج) لعالم النفس الأميركي الشهير جيرالد جامبولكسي الذي يستعرض القدرة على تجاوز الصعوبات والتحديات من أجل تحقيق التسامح والتصالح باعتباره العلاج الإنساني لكل ما تتعرض له العلاقات من تشوهات أو تصدعات أو انهيارات كاملة.
ولكن الشيخ محمد المبشر في كتابه (بين الرمال والملح) الذي يهديه للجيل القادم (لمن سيأتي بعدنا) يستمد رسالته الإنسانية الوطنية وجهوده النبيلة من روح إيمانية عظيمة، وإرادة مفعمة بالعديد من التحديات تجاه الذات الإنسانية المكابرة أولاً، وتجاه عناد الآخر وما غرسته فيه ظنونه من مزاعم القوة وأوهام النصر والغلبة على أخيه الإنسان ثانياً، وأيضاً تجاه الظروف الزمانية والمكانية وما يطرأ عليها من عدم استقرار للأحداث وانفلات أمني وغيرها.
ولا شك بأنَّ كُلَّ ذلك يتأسس على إيمانٍ ديني عميقٍ بما ترسخ في فكره ووجدانه منذ التنشئة الأولى من تعاليم ربانية إسلامية سمحاء بجميع مضامينها التي ورد بعضها في آيات القرآن الكريم لحث الجميع على التسامح والتصالح، مثل قوله تعالى (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)، وقوله (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وكذلك (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ).
إن هذا الأساس المتين الذي يمثل التعبئة الإيمانية الروحانية والفكرية لدى الشيخ محمد المبشر هو الذي يحاجج به الآخرين بكل ثبات وصلابة، ليس من أجل غايات دنيوية رخيصة أو منافع ومكاسب شخصية لذاته، بل هدفه الرئيس حقن الدماء البشرية، ودفع الظلم عن الجميع، وصون الممتلكات والحقوق، وتعبيد طريق المستقبل لأجيال قادمة، وأزعم أنه في كل حواراته ومجادلاته ومواجهاته يبتسم للطرف المقابل بكل ثقة وأريحية ويستذكر مقولة لقمان الحكيم (يا بُنيَّ كَذِب مَنْ قَالَ إِنَّ الشَّرَ بِالشَّرِّ يُطفأ، فإن كان صادقاً فليوقد نارين، وينظر هل تطفئ إحداهُما الأخرى، وإنَّما الخيرُ هو الذي يُطفئ الشرَّ كلَّه كما يُطفئ الماءُ النار)، ولذا فهو يتأبط أفعال الخير والحث عليها سلاحاً لإطفاء شرور النفوس المنحرفة عن الحق والهُدى، وإعادتها إلى طريق الصواب من أجل جيل قادم ومستقبل واعد منتظر .

من خلال متابعة جميع ما يتعلق بالمصالحة الوطنية في ليبيا، لا أظن أنه بعد كتاب (مسار المصالحة الوطنية والسلم الاجتماعي) للدكتور عبد السلام جمعة زاقود الصادر سنة 2012م، المتضمن تحليلاً وافياً وشاملاً للوضع السياسي الليبي حتى تاريخ صدور الكتاب سنة 2012م، واستعراض المبادئ الأساسية لعملية المصالحة الوطنية بين الليبيين، بإمكاننا أن نجد أي مؤلف أو كتاب مطبوع تناول موضوع المصالحة الليبية بعد 2011م بالتتبع الزماني والمكاني الدقيق كالذي وثقه الشيخ محمد عيسى المبشر في كتابه القيّم (بين الرمال والملح) وتوضيحه للصعوبات والمخاطر التي تعرض لها شخصياً ورفاقه الكرام من أجل عقد لقاءات أو حوارات، وفتح قنوات اتصال وتواصل لإعادة علاقات متصدعة أو منهارة بالكامل، وقد عزز كل تلك الأحداث بالتواريخ الدقيقة وشواهد الصور الفوتوغرافية وخريطة جغرافية توضح مسارات قوافل المصالحة والمدن الليبية التي شهدتها، وبالتالي فإن الكتاب سيحتل بكل استحقاق وجدارة موضعه في صدارة كتب ومراجع التاريخ الوطني الليبي المعاصر بشكل متميز، لأننا لم نطالع سابقاً ما يوثق مبادرات الصلح والتسامح التي جرت قديماً قبل 2011م خلال الصراعات العديدة بين القبائل والمناطق الليبية، ولم نعرف رجال المصالحة في تلك المبادرات الخيّرة، ولذا فإن كتاب (بين الرمال والملح) للشيخ محمد عيسى المبشر يكتسي قيمة السبق والريادة ليكون المرجع الأول والأساسي الذي يقدم العديد من التفاصيل والحوارات والأسماء والمدن والقبائل التي سجلت مواقفها فيما يتعلق بالمصالحة الوطنية.
وأزيد لأوكد بأنَّ كتاب (بين الرمال والملح) الذي جاء في مائتي صفحة من الحجم الكبير سيزداد وزنه وقيمته وأهميته مع مرور الزمن، وستجد فيه الأجيال القادمة تفاصيل التحديات الجمة التي واجهها الشيخ محمد عيسى المبشر وتجربته الشخصية في التنقل والتحاور بين القبائل المتقاتلة والأجسام المتصارعة والأطراف المنقسمة في ربوع الوطن، وستكتشف أنَّ لدى الليبيين رغبة وقدرة على لم الشمل، والتغيير والتحدي، والحوار والاقناع ومن ثم الانحياز للخير بكافة أشكاله، لأننا على يقين بأنه سينتصر دائماً، بفضل الرجال الخلص مثل الشيخ محمد عيسى المبشر ورفاقه وأعمالهم الوطنية والإنسانية النبيلة، الذين خاضوا مغامرات المصالحة والتسامح منذ بدايات اندلاع الصراعات في ليبيا سنة 2011م وسيرواً قوافل لم الشمل، ورأب الصدع، والتسامح والتصالح إلى زواره والجميل والأصابعة وغريان وغدامس وسبها وتاجوراء والكفرة وطرابلس وصرمان وترهونة وخارج ليبيا إلى القاهرة خلال الفترة من 2011م وحتى 2018م، وسجلوا سردياتهم والرصاص فوق رؤوسهم ويحيط بهم من كل الجوانب، ولكن بفضل تحديهم وتحليهم بالحكمة والصبر والتضحية والتنازل أثمرت جهودهم، وأينعث ثمار تلك الجهود خيراً وسلاماً ومحبةً وأمناً واستقراراً في ربوع البلاد، فهل يكفي أن نقول لهم (شَكَرَ اللهُ سعيكم) أم نجعل سيرة (بين الرمال والملح) يلهج بها كل إنسان نبيل، وليبي وطني غيور، ويستلهم منها الدروس والعبر من أجل غدٍ آمنٍ ومشرق لوطن واعد.
