الخوف يملأ المدينة، وشياطين الإنس يمطرونها رصاصًا حيًّا، والمقابر تمتلئ، والدماء على الطرقات، والمستشفيات تعجّ بالجرحى، والدمار يجتاح الشوارع الأزقة والمباني. لا يعلو في المدينة سوا صوت الأذان والرصاص والإسعاف، وصراخ النساء والأطفال وحتى الرجال… مدينة بكى فيها الرجال.
يمثل 15 أكتوبر 2014 محطة مفصلية في تاريخ مدينة بنغازي وذاكرة الليبيين جميعًا، إذ سجّل بداية مرحلة جديدة في الحرب ضد الإرهاب، ويُعرف بيوم اتحاد الشعب والجيش لاستعادة المدينة من قبضة التنظيمات المتطرفة.
في ذلك اليوم، أعلن سكان بنغازي انتفاضتهم المسلحة إلى جانب القوات المسلحة الليبية ودعمهم التام للجيش، في مواجهة الجماعات المتطرفة الإرهابية المنتمية لتنظيم داعش، التي كانت تسيطر على أحياء واسعة من المدينة منذ عام 2013، لتبدأ من هناك معركة طويلة انتهت بتحرير بنغازي في يوليو 2017.
جذور الحرب
تعود جذور تلك الأحداث إلى عملية الكرامة التي أعلنها القائد العام للقوات المسلحة، المشير خليفة حفتر (اللواء آنذاك)، يوم 16 مايو 2014، بهدف القضاء على التنظيمات المتشددة التي اغتالت المئات من ضباط الجيش والشرطة والنشطاء المدنيين والإعلاميين والنخب السياسية والاجتماعية.
بلغت عمليات الاغتيال حينها ذروتها بمعدل وصل إلى نحو 18 حالة في اليوم الواحد، ما خلق حالة من الغضب الشعبي دفعت الجيش لإطلاق عملية واسعة ضد المجموعات المسلحة التابعة لتنظيمات أنصار الشريعة وداعش والقاعدة.
ورغم محدودية التسليح في صفوف الجيش آنذاك، واجهت القوات تحالفًا من هذه التنظيمات المتطرفة المدعومة لوجستيًا من أطراف سياسية في الغرب الليبي، ما أدى إلى تراجع الجيش وتحصنه في قاعدة بنينا الجوية شرق المدينة، بينما بقيت مناطق واسعة من بنغازي تحت سيطرة المسلحين.
في 15 أكتوبر 2014، وبعد سلسلة من المعارك خسر فيها الجيش مواقع مهمة، أبرزها معسكر القوات الخاصة في بوعطني، أعلن أهالي المدينة انتفاضتهم تحت شعار “انتفاضة 15 أكتوبر المسلحة”.
إنتفاضة بنغازي
تحرك شباب بنغازي الذين أُطلق عليهم حينها اسم “الصحوات” بشكل منسق لدعم الجيش، حاملين السلاح في أحيائهم، ليبدؤوا معارك شرسة ضد المجموعات المتطرفة في عدة مناطق من المدينة.
تزامن ذلك مع زحف القوات المسلحة من مواقعها في الرجمة وبنينا باتجاه قلب المدينة، في عملية أُطلق عليها آنذاك “نزول الجيش”.
وفي غضون أسبوع واحد، تمكنت القوات من استعادة السيطرة على أغلب أحياء بنغازي، وحصار المسلحين في جيوب محدودة أبرزها الليثي، والصابري، وسوق الحوت، والقوارشة، وبوعطني، والهواري، وقنفودة.
دور الإعلام
كانت تلك المجموعات الإرهابية قد لاقت دعمًا إعلاميًا محليًا من بعض القنوات الليبية الخاصة التمويل، مثل قناة النبأ وقناة ليبيا الأحرار وقناة التناصح.
وفي المقابل، خاض الإعلام الوطني معركته إلى جانب الجيش، فكانت له جبهته الإعلامية التي تصدرتها قناة ليبيا أولاً، وقناة ليبيا الكرامة، وقناة ليبيا روحها الوطن، وقناة 218، ثم ليبيا الحدث.
حرب السنوات الثلاث
استمرت المعارك حتى عام 2017، إذ خاض الجيش الليبي حربًا ضروسًا لتحرير ما تبقّى من أحياء المدينة التي تحصّنت فيها الجماعات الإرهابية وسط المدنيين.
كانت تلك الحرب معقّدة بسبب استخدام المسلحين الدروع البشرية، واستمرار تدفق الإمدادات إليهم عبر البحر في ما عُرف حينها بـ “جرافات الموت” القادمة من بعض مدن غرب البلاد.
وبرغم ذلك، واصل الجيش الليبي تقدمه حتى أعلن قائده العام المشير خليفة حفتر في 5 يوليو 2017 تحرير بنغازي بالكامل من قبضة الإرهاب، لتبدأ المدينة بعدها مرحلة جديدة من إعادة الإعمار والاستقرار الأمني.
ولادة جيش من رحم المعاناة
كانت تلك الحرب بمثابة ولادة من الخاصرة لجيش وُلد لينتصر، جيش نظامي منضبط قوي بمعسكرات وتدريبات أشرف عليها كبار الضباط وضباط الصف.
ملحمة أنتجت جيشًا يضاهي جيوش دول كبرى. انتهت الحرب على الإرهاب وبدأت الحرب على الدمار، بمشاريع إعمار لا تتوقف، واصلت الليل بالنهار، واجتاحت البلاد انطلاقًا من بنغازي إلى شرق البلاد حتى طبرق، ومن بنغازي إلى الجنوب من سبها حتى العوينات، ومن بنغازي حتى سرت والعقيلة وتاورغاء.
ويبقى في التاريخ 15 أكتوبر 2014 كرمز وطني لتكاتف الليبيين في وجه الإرهاب، وكذكرى لتضحيات أبناء بنغازي الذين وقفوا جنبًا إلى جنب مع الجيش في واحدة من أكثر المراحل حسمًا في تاريخ ليبيا الحديث.
كما تمثل هذه الذكرى تذكيرًا بقدرة المجتمع الليبي على الاتحاد في مواجهة الأخطار التي تهدد أمن البلاد واستقرارها.
