أقام المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية بطرابلس صباح يوم الإثنين 20 أكتوبر الجاري، حفل إشهار الوثائق السنوسية التي تُعرض للمرة الأولى، وسط حضور نخبة من الأساتذة والأكاديميين والباحثين والمهتمين بالشأن التاريخي والتراثي في ليبيا.
وتولى إدارة وتقديم الحفل علي الهازل الذي استهل كلمته بالتأكيد على أهمية هذه اللحظة التاريخية في مسار التوثيق الوطني، مشيراً إلى أن العمل على هذه المجموعة من الوثائق واجه العديد من الصعوبات نتيجة تعثر النشاط الثقافي والفكري في البلاد خلال فترات سابقة، لكنه شدد على أن ما تحقق يُعد إنجازاً يعكس إصرار المركز على حفظ الذاكرة الوطنية.

وأوضح الهازل أن ليبيا، رغم ما واجهته من ظروف قاسية من جفاف وتصحر وعدم استقرار، ظلت تتفاعل بعمق مع محيطها الثقافي العربي والإسلامي، مشيراً إلى الدور الريادي الذي اضطلعت به الزوايا والكتاتيب والمساجد في تشكيل المشهد الثقافي الليبي. وأضاف أن تاريخ ليبيا الثقافي مدين لتلك المؤسسات العتيقة التي أنتجت مخزوناً هائلاً من الوثائق والمخطوطات في مختلف المدن والقرى الليبية.
وبيّن أن قسم الوثائق العربية بالمركز يضم اليوم ما يزيد عن 1750 وثيقة تتناول الحركة السنوسية في مجالاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهي وثائق متنوعة من حيث الخطوط واللغات والتواريخ، وتغطي النشاط السنوسي في مناطق ليبيا شرقاً وغرباً وجنوباً. وأوضح أن هذه المجموعة أُطلق عليها داخل المركز تسمية “وثائق أحمد الشريف” لتسهيل التعامل الفني معها ضمن الأرشيف الداخلي.

من جانبه ألقى محمد الطاهر الجراري، مدير عام المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية، كلمة شاملة أكد فيها أن المركز مؤسسة وطنية تخدم ليبيا بكل مكوناتها، لا نظاماً ولا حكومة بعينها، بل الذاكرة الوطنية الجامعة التي توثق مسيرة البلاد عبر العصور إذ قال الجراري في سياق كلمته:”إن الأرشيف هو ذاكرة الوطن ومرجعيته الثابتة، وبدونه لا يمكن بناء مستقبل مستقر. من لا ذاكرة له لا جذور له، ومن لا جذور له كالشجرة المقتلعة لا تورق ولا تثمر”.
وأضاف أن المركز يعمل منذ عقود على جمع التراث الوطني وحفظه وإتاحته للباحثين، مشدداً على أن الهوية الليبية الجامعة لا يمكن بناؤها إلا عبر الوعي بتاريخ البلاد وتوثيقه بشكل منهجي، داعياً إلى التعامل مع الأرشيف كمرجعية استراتيجية لصياغة السياسات المستقبلية، كما تفعل “الدول العميقة” التي تستند في قراراتها إلى مراكز البحوث والدراسات التاريخية.
كما تحدث الباحث إبراهيم الشريف مستعرضاً جانباً من تفاصيل العمل على هذه الوثائق، مبيناً أن أقدمها يعود إلى سنة 567 هـ، وأنها خضعت لعمليات فهرسة وتصنيف وأرشفة رقمية دقيقة، وبلغ عددها نحو ألف وثمانمائة وخمسين وثيقة تغطي فترة زمنية تمتد من بدايات القرن الرابع عشر إلى مطلع القرن الخامس عشر الهجري، مشيراً إلى أن هذه الوثائق تمثل ثروة علمية يستفيد منها طلبة الدراسات العليا والباحثون في التاريخ الليبي الحديث.
من جهته، أشار الباحث نصر الدين الجراري إلى أن المركز قطع شوطاً كبيراً في مراكمة النتاج التاريخي الوطني، إذ تضم مكتبته أكثر من 30 مليون وثيقة، إضافة إلى 143 ألف صورة، و8578 شريط كاسيت، و139 قرصاً مدمجاً، موضحاً أن المركز ترجم أكثر من 11,650 وثيقة بلغات مختلفة، ونشر منها 8,757 وثيقة ضمن سلسلة الوثائق التاريخية التي توزعت على 53 مجلداً بلغات متعددة منها الإيطالية والفرنسية والألمانية والأمريكية.

وأشاد المؤرخ والكاتب يوسف عبد الهادي الحبّوس، رئيس اللجنة التأسيسية لـ مكتبة الملك إدريس الأول بدرنة، بجهود المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية في حفظ الذاكرة الوطنية، وذلك خلال مشاركته في الاحتفالية التي نظمها المركز بمناسبة الكشف عن أكثر من 17 ألف وثيقة دينية وعسكرية وسياسية تتعلق بدور الطريقة السنوسية ورجالاتها في تاريخ ليبيا الحديث.
وفي كلمته أمام الحضور والتي رصدتها المنصة، عبّر الحبوس عن خالص شكره وتقديره لمحمد الطاهر الجرّاري ولجميع القائمين على المركز، مشيدًا بـ«تنظيم هذا الحدث العلمي المتميّز، وبالجهود المبذولة في إتاحة الوثائق التاريخية الثمينة أمام الباحثين والمهتمين بتاريخ الوطن».
وقال الحبوس إنّ مثل هذه المبادرات «تسهم في تعميق فهمنا لماضي بلادنا وتُسلّط الضوء على المراحل المفصلية التي شكّلت هويتنا الوطنية»، مشيرًا إلى أن المركز «اضطلع بدورٍ رائد في نشر الثقافة الوطنية وصيانة الأرشيف الوطني على مدى نصف قرن، ما وفّر مصادر بحثية موثوقة مكنت الدارسين من بناء السردية التاريخية على أسس علمية رصينة».

وأضاف المؤرخ الليبي أن المركز، في مراحل سابقة، «كان مضطرًّا إلى مراعاة بعض التحفّظات التي فرضتها سياسات النظام القائم آنذاك، ولا سيّما فيما يتصل بالطريقة السنوسية ودورها الوطني، وبخاصة زعيمها الملك إدريس السنوسي»، موضحًا أن ذلك «دفع إدارة المركز إلى تجنيب عدد كبير من الوثائق حرصًا على بقائها وسلامتها».
وأكد الحبوس أن تلك الظروف «قيّدت مجال البحث العلمي وأثّرت جزئيًا في موضوعية بعض المنشورات»، لكنه دعا في الوقت ذاته إلى «الإنصاف في تقييم تلك المرحلة» مثمّنًا «الجهود الصادقة المبذولة اليوم لاستدراك ما فات».
وشدّد على أن «إعادة قراءة تاريخ ليبيا بمنهجٍ علمي نزيه باتت واجبًا وطنيًّا لفهم جذور الحاضر واستشراف المستقبل»، داعيًا الدولة إلى تحمّل مسؤوليتها في دعم المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية حتى يتمكّن من مواصلة دوره في «تأطير التاريخ الوطني المشترك وإحياء الذاكرة الجمعية وردم الفجوة الذهنية لدى الأجيال تجاه تاريخ بلادهم».
