عبدالجواد عباس
قال عنه صديقه : الكاتب الناقد الفذ ، الذي تخترق كلماته جدران عقلك المحصن ، هو في الحقيقة إنسان غاية في اللطف ، لا يمكن أن يرفع حتى صوته أثناء الحديث معك ، إنسان غاية في التواضع رغم العطاء العلمي و المخزون المعرفي ، ينصت إليك و كأنه يتعلم منك ، و هو في الحقيقة يعرف أكثر مما تعرف لا يمكن أن تسمع منه كلمة سيئة حتى في حق خصومه و من يناصبونه العداء كلما التقيت به صدفة في الحرم الجامعي، أبادره بالسؤال عن سبب غيابه الطويل ، فيخبرني أنه يفضل العزلة ، و يستمتع بها ، عزلة للبشر فقط ، و لكنها صحبة للقراءة و الكتابة ، للعمل الأدبي و الأكاديمي الذي لا ينقطع .. هو بالنسبة لي من القلائل الذين يجمعون بين النقد و الهدوء بين أن تكون أديبا و مثقفا و إنسانا في ذات الوقت .
إنه الدكتور في اللغة العربية وآدابها والقاص والناقد الليبي عبدالجواد عباس من مواليد مدينة البيضاء في عام 1947م درس فيها وفي المرحلة الجامعية انتقل إلى مدينة بنغازي حيث جامعة قاريونس التي درس فيها اللغة العربية في كلية الآداب وتحصل على ليسانس آداب في اللغة العربية وآدابها عام 1977م ، ليعود بعدها لمدينته البيضاء ويشتغل في التدريس بدأ بالمدارس الإعدادية ثم الثانوية حتى عام 1990م، وواصَلَ العمل التعليمي كمفتش تربوي في مادة تخصصه حتى عام 2000م ..


في رحلتي للبحث عن سيرته ومسيرته المهمة التي أثرت الثقافة الليبية بنبعه التعليمي المعرفي الأدبي السلسبيل فيها .. استوقفتني قصة رواها أحد تلامذته عنه وكيف كان معلما سلسا خفيف الظل صديقا لطلابه وعنه أحبوا المادة التي يدرسها بطريقته المخصصة فيقول الطالب عبدالحميد بالروين :
الأستاذ/ عبد الجواد عباس .. إنسان رائع بمعني الكلمه وكان مدرسنا في مرحلة الاعداديه في مدينة البيضاء تقريبا السنوات من (80 _ 81 _ 82 ) مدرستنا ذلك الوقت ( فرج سعيد الاعداديه ) وكان استاذنا الفاضل ذو هدوء جميل في طريقة التدريس وكان الفصل يفهم بسرعة من شرحه للدروس وصبره الجميل على الطلبه وكان يذهب معنا دائما في الرحلات المدرسيه وكان صاحب دعابه ونكته للطلبه فأذكر دعابه قصها لنا لم أنسها الى يومنا هذا قال كان ( أعرابي اسمه نفطويه كان شخص آخر ناقما منه فدعى عليه بقولة حرق الله اسمك بأول اسمك نفط .. وآخر اسمك نواحا عليك وييييه ) .
هذا الأديب الذي دلت عليه صفاته الشخصية من خلال من عرفوه ومن تتلمذوا عليه لم يتوقف عن التحصيل العلمي حيث الليسانس بل استكمل وهو يعمل مدرسا دراسته العليا حتى تحصل في العام 2003 م من جامعة عمر المختار بالبيضاء على درجة الماجستير في الأدب وكانت رسالته بعنوان (اتجاهات السيرة الليبية القصيرة ما بين عامي 1957- 1987م) .. وكانت نقلة موضوعية لحياته العملية إذ انتقل من التدريس الثانوي إلى التدريس الجامعي وكانت محاضراته بين الجامعتين عمر المختار وقاريونس وظل مهتما مثابرا الدكتور عبدالجواد حيث نراه قد اجتهد بدقة متناهية في دراسة تطور القصة الليبية القصيرة منذ مولدها منتصف ثلاثينيات القرن العشرين وحتى نهاية نفس القرن ولمسنا من سيرته هذا حين تحصّل في عام 2007 م من جامعة قاريونس على درجة الدكتوراة في الأدب الحديث ورسالته عنوانها (السيرة الليبية من التقليد إلى التجريب) وفي معرض الحديث عن رسالته للدكتوراه كتب المرحوم الأديب ناجي الحربي عنها وقد صدرت ككتاب عنونه ( القصة الليبية القصيرة من التقليد إلى التجريب ) فجاء في مقدمة مقال الحربي بالخصوص :
لم أتوقع أن أفرغ من قراءة هذا الكتاب في أقل من أربع وعشرين ساعة.. بعض الكتب تستهلك مني الوقت الكثير رغم أهميتها الأدبية أو التاريخية أو العلمية.. ربما لصعوبة أسلوبها أو لفلسفتها المعقدة التي تحتاج إلى عوامل مساعدة كالبحث عن معاني مصطلحات أو الرجوع إلى مراجع ومصادر تتعلق بالموضوع.. لكن هذا الكتاب لا أعرف ما الذي شدني إليه من الصفحة الأولى إلى آخر ورقة فيه.. ولا أنكر أنني أهملت واجبات اجتماعية أثناء قراءتي لهذه الدراسة الماتعة .. ورغم أني أعرف أسلوب كتابة عبدالجواد وأخبر سرده القصصي جيدا إلا أن هذا الكتاب يختلف كثيرا، ذلك أنه عبارة عن رسالة دكتوراة في الأدب الليبي، ويبدو أن الكاتب بذل جهدا مضنيا في تجميع المادة وصياغتها بطريقة علمية مقنعة.. إذ يتناول الدكتور عبد الجواد موضوعا نقديا جديدا، إلى جانب السرد التاريخي للقصة الليبية منذ نشأتها عام 1935بظهور أول قصة للكاتب وهبي البوري في أول نص يقارب الناحية الفنية القصصية، وحتى نهاية القرن العشرين.
هذا وقد تعرض الباحث الدكتور عبدالجواد في كتابه هذا إلى المراحل التي صاحبت نضج القصة الليبية وحركة المجايلة التي تلت ذلك ، والتي كان لها الأثر البالغ في إثراء حركة الأدب الليبي بصفة عامة والقصة بصفة أخص .

صدر للكاتب عددا من المؤلفات في مشارب أدبيه عده :
_ له في القصة _ مجموعة قصصية بعنوان (وحدي في عرض البحر) ، صدرت عن الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع في عام 1991م.
_ وفي الرواية صدرت _ رواية بعنوان (لقاء في غابة السرو) عن دار نقوش عربية بتونس في عام 1998م.
_ أما في الموروث الثقافي الليبي تخير أن يؤلف كتابا بعنوان (رعي الأغنام في التراث) صدر عن دار الجبل الأخضر للطباعة في عام 1992م.
_ اشترك مع الأستاذ عبد الله عقيلة في تأليف كتاب (اسلنطة المكان يتحدث) الصادر في عام 2001م عن مطابع الثورة ببنغازي.
_ في كتاب مهم أصدره كدراسة أدبية قام فيه بشرح وتحقيق ديوان الشاعر جبريل الرعيدي والمعنون (جبريل الرعيدي في قصائد الحرب والحنين والشكوى) صدر عام 2000 م، وأعدّه إسرافيل الرعيدي.
علمنا في جمعنا لسيرته الأدبية أن عددا من المخطوطات ماتزال حبيسة الأدراج وقد اكتملت ولكن ربما تكون الآن في طريقها للنشر :
_ (البيضاء وتذكرات صبيّ الخمسينات)
_ مجموعة قصصية بعنوان (ثروة أمي).
_ كتاب منهجي بعنوان (توضيحات إملائية).
_ رواية بعنوان (حارس المنارة).
عبدالجواد عباس واكب العصر ربما أخذته هذه حيث يحب أن يكون في عزلة إلا عن الكتب والكتابة لأن المدونات النشر الإلكتروني للمؤلفات والكتب أصبح هوالدارج في زماننا .. كانت له مدونته الخاصة باسمه قال تعريفا لها :
” مدونتي مساهمة متواضعة في الفكر والأدب تبدأ بتجميع مقالات سبق نشرها في بعض الصحف والمواقع الالكترونية اغلبها في النقد الأدبي وسنضيف إليها ما تسمح الظروف والوقت باضافته والله ولي التوفيق “
لا أدري هل صفات الإنسان الفطرية تؤثر على مسار حياته وظهور موهبته للناس .. لأن أديبنا الفذ ناقد . قاصا . روائيا . باحثا في الأدب . باحثا في التراث . ومعلما جامعيا مشهود له بين طلابه . له مؤلفات علمية في مجاله اللغوي والأدبي .. ولكنه اتصف بالهدوء والعزلة فلم يكن كثير الحضور للمهرجانات والمؤتمرات الأدبية في العام 2010 استضافه منتدى أماسي البيضاء الثقافي وقد احتفى في السابق بالدكتور عبدالجواد عباس كروائي وأديب من مدينة البيضاء , وفي هذه الأمسية احتفى به كمؤرخ للقصة في ليبيا فقدم محاضرة عن تاريخ القصة القصيرة في ليبيا واختار قصاصي الجبل الأخضر نموذجاً عنونت محاضرته : “القصة الليبية القصيرة ، قصاصو الجبل الأخضر نموذجاً ” فتحدث عن الصديق بودواره . داوود حلاق . أحمد يوسف عقيلة . الناجي الحربي . سعد موسى مهيوس . صالح سعد يونس ….. وغيرهم .
لم نجد له تكريما يليق بعبقريته في الهواية الأدبية التي حباه الله بها ولا جائزة إلا واحدة حين حولت قصته قصته (سائق الشاحنة) إلى شريط مرئي في العام 1995م عرض في مهرجان القاهرة الدولي فحازت على الترتيب الثالث ونال عبد الجواد عباس الجائزة . ولكن أجمل الجوائز التي ينالها الكاتب شاعرا بمغزاها المعنوي العميق أن يتذكره القراء ومن درس أعمالهم بعمق وتتداول سيرته كعبرة وملمح لحيوات قادمة لمبدعين قادمين .. أترك القارئ لمنصتنا مع إحدى قصص الناقد القاص الباحث ليتعرف عليه عن قرب ..

شيبتني ليلة واحدة – قصة للدكتور / عبدالجواد عباس
شمس الأصيل بوميضها الأحمر الواهن تنعكس على سطح الأرض المخضر فتكوّن مع الأعشاب الندية بريقا يصعد مع خيوطها، يتلألأ هنا وهناك وكأنه الذهب الملقى على رمال الصحراء يرسل لمعانه من بعيد… ورجلان يمشيان على حذر، لم يلبثا أن يتوقفا هنيهة بدون حراك كمن يسترقان السمع، يلتفتان يُمنة ويُسرَى صوب الغابة وصوب الربوة التي بدأا يرتقيانها.. لم يكن هذان الاثنان إلا مجاهدين أسندت إليهما مهمة اكتشاف الطريق الشمالي والتأكد من مواقع العدو إن كانت عن قرب أو بعد، وتأمين السبيل للمجاهدين.
وقد اختير هذان الشابان( حسن ومختار) للقيام بهذه المهمة التي كثيرا ما قاما بها.. لا يكاد يستبان شيء يحملانه سوى بندقيتيهما.. وبعد أن تأكدا أن الطريق خالية أخذا يزيدان من تقدمهما نحو الشمال صوب قمة الربوة ببطء متتبعين مناطق وجود الأعشاب البرية المثمرة.. وفيما هما كذلك إذا بضوضاء عرفا منها للوهلة الأولى ضوضاء عساكر الطليان، وقد قاربت وصولها من الجهة المقابلة فقفلا راجعين جريا لعلهما يوصلان الخبر الخطير إلى المجاهدين، إلا أن الرصاص أخذ يمطرهما بكثافة وهما يدخلان الغابة حتى ضيّق عليهما.. أبصرا مغارة فتوقفا عند بعض الشجيرات، ونظر كل منهما إلى الآخر وأشارا في وقت واحد نحوها فهم مُدركون لا محالة.
وأخذ الاثنان يلوذان بصخرة بعد صخرة، ويستتران بفروع الأشجار ولكن رصاص الدورية لازال يلاحقهم ويضيق عليهم الخناق، يئز قرب أرجلهم مثيرا التراب في وجهيهما واقتربا من المغارة، فإذا هي ذات فوهة صغيرة، فضّلا الاختفاء فيها ريثما تتوه الدورية عنهما وأخذا يزحفان نحوها، ودخل حسن، وكان عريض المنكبين فلم يدخل إلا بصعوبة جارفا بعض الأتربة إلى الداخل غير أن المغارة أصبحت تتسع قليلا من الداخل.. ثم دخل مختار بسهولة ولم يتوقفا عند المدخل فحسب بل أخذا يتوغلان في الظلمة إلى الداخل والأحجار تلكمهما، ولم يتوقفا إلا عند نهايتها حيث كانوا ينشدون شيئا من الاتساع.. كانت المغارة سرداب طويل مظلم، يضيق في البداية ويتسع تدريجيا إلى الداخل.
لم تمض لحظات حتى سمعا أصواتا آتية من الخارج، استبانا منها أصوات الدورية تجدّ في البحث عنهما.. وبعد قليل طرق سمعهما صوت بعضهم يأمرهما بالخروج، ويعدهما بالنجاة إذا هما سلما نفسيهما، فبقيا صامتين دون حراك لأنهما متمسكان بفكرة عدم رؤية الجنود لهما عندما دخلا المغارة.. ومضت دقائق والجنود على هذا الدأب، حيث لم يستطع أحدهم المرور من أمام فوهة المغارة لخوفه من رصاص الرجلين إذا ما كانا في الداخل.. في حين كان الرجلان بعيدين جدا عن الفوهة، يلمحان بابها كنقطة صغيرة من الضوء.. لم يمض بعد ذلك وقت كثير حتى حط الظلام سدوله.
سكت جنود الدورية عن محادثتهم، ولكن الاثنين أصبحا يحسان أنهم لم يبرحوا المكان، فأصوات الخيل والبغال تدل على وجودهم.. مكث الاثنان تلك الليلة في المغارة يلفهما الظلام الدامس، فما استطاعا رؤية شيء اللهمّ إلا سماع حديث خافت يجري بينهما بهمس وحذر، حيث ما يزال يحدوهما أمل في النجاة، فالجنود حسب توقعهما غير متأكدين من وجودهما داخل المغارة، وما أمرهم لهما بالخروج إلا جلاء للشك.
بقي الرجلان على تلك الحال إلى الصباح، مفترشين الأحجار والحشرات تدب على جسديهما،ويرتعشان مع كل لسعة.. لقد عرفا أن الليل قد حلّ حينما أظلمت فوهة المغارة.. وحينما عاد الضوء من جديد عرفا مطلع الصبح.. ودار حديث قصير بين حسن ومختار، فقال مختار :
ـ يبدو أن الدورية قد رحلت فلم أعد أسمع أصواتا.
ـ لا اعتقد أنها رحلت، ربما هذا من باب الخداع، خاصة إذا كنا قد شوهدنا ندخل
المغارة.
ـ رحلت أو لم ترحل، على أية حال هيّا بنا نخرج للموت في الهواء الطلق على الأقل.
ـ كيف ؟ تريدنا أن نخرج والجنود مازالوا متربصين لنا.
ـ قلت لك لا يوجد أحد في الجوار، وإذا هم حاولوا الخداع بسكوتهم فلا تستطيع
الحيوانات خداعنا.
ـ ربما أبقوا من يتربص بنا، فلنتمهل قليلا.
ـ أتصدق أن دورية سريعة تهتم لأمرنا هذا الاهتمام ؟
ـ نعم، يسرهم العودة بأسيرين للتباهي أمام رؤسائهم.
ـ أقول لك كلمتي الأخيرة وبعدها سأذهب بك أو بدونك.. فإن أردت الذهاب معي فهيّا
وسيكون مصيرنا واحدا.
ـ ولكن ماذا ستفعل إذا وجدتهم ؟
ـ سأحاول قتل ما استطيع ثم أتحمل المصير المحتوم.
ـ إني لا أوافقك، ليس من الشجاعة مثل هذا التصرف، فإذا انتظرت حتى الليل
فسننسحب معا فربما نجونا.
ـ لقد سئمت الكلام، كما سئمت هذا المكان، فهل لك في الخروج معي ؟
ـ لا، لن أخرج.
ـ إذاً الوداع.
قال مختار هذه الكلمة ثم مضى نحو باب المغارة تاركا رفيقه الذي لم ينبس بكلمة، والذي أخذ يراقبه وقد حجب عنه باب المغارة، فلم يتأكد من خروجه حتى بان عليه الضوء من جديد.. وما هي إلا فترة سكون بسيطة حتى سمع عدة طلقات عرف منها رصاص الدورية ووقوع رفيقه صريعا عند باب المغارة.. ولم يلبث حسن بعد ذلك حتى سمع جنود الدورية يأمرونه بالخروج ويعدونه بالأمان إن هو سلم نفسه وسلاحه.
مكث حسن في مكانه فلم يكلمهم.. وعند الأصيل أحسّ بأن الجو قد هدأ فلم يعد يسمع الأصوات التي كانت تنبعث من حركات الدورية في الخارج.. حدثته نفسه بالخروج واستقر رأيه أخيرا على ذلك ولكن سرعان ما غيّر فكرته، لقد فضّل البقاء حتى الصباح جلاء للشك وإبعادا للأوهام.
عندما كانت نفسه تضطرم بهذه الافتراضات كان الغروب قد أوشك وصار باب المغارة يشع وميضا ضئيلا من الضوء، ضوء في طريقه إلى الزوال السريع.. كان نظره في هذه اللحظة مصوبا نحو باب المغارة، إذ بدأ يبصر خيالا يعلو وينخفض، ليس في حجم رجل حتى يوجه إليه بندقيته، بل هو جسم يهتز غير ثابت.. أخذ ذلك الجسم يتوغل إلى الداخل نحو حسن الذي دهش لدخول هذه المصيبة الجيدة.. لم تمض ثوان حتى صارت الأحجار ترتطم في بعضها متأثرة بفعل الجسم الذي يتدحرج فوقها، لقد ظهر جليا أن ذلك الشيء لم يكن إلا حية تسعى، وإن هذه المغارة مسكنها.. التفّ حسن بجرده جيدا ولم يُظهر شيئا من جسمه.. لقد تمدد على ظهره وكأنه ميت مكفّن.. لقد تأكد له ملاقاة الموت حتما.. كان الجرد شفافا استطاع من خلاله رؤية باب المغارة وهو يتلقى آخر وميض من الضوء.. لقد رأى ألا يأتي بأية حركة، وأن يهدأ تماما، حتى أنه اقتصد في التنفس.. وقفت الحيّة وتشامخت برأسها، كان حسن يراها ظلمة سوداء وكأنها مأسورة قسمت فوهة المغارة البعيد إلى نصفين.. كانت عملاقة، بقيت رافعة رأسها بالقرب من حسن.. بقيت هكذا قرابة العشر دقائق وهي تمعن النظر إلى هذا الشيء الذي احتلّ مكانها مستنكرة وجوده.
بات حسن في حالة من الرعب، فلا منجاة من هذا الصل الهائل، لن ينفع معه صراع البندقية قد تخطئه، وإذا جرحته يصبح أكثر هياجا.. انتظر لتبدو منه أية حركة لتلتف حول جسمه وتحطم عظامه.. انتظر حسن هذا المصير وبدأت الحية تطاطئ رأسها ثم لامست جسم حسن وشعر بها تسحب جسمها ببطء، ومازال بقية جسمها يتوالى.. سكن حسن تماما، اللهم إلا ارتعاش داخلي لا يملك السيطرة عليه.. انتظر أن تطوي جسمها عليه ولكنها لم تفعل.. لقد تجاوزته إلى جانبه وانطوت حيث بدأت في سبات عميق.
لقد تعقد الموقف تماما، عدو في الخارج وعدو في الداخل، لقد صار عدو الخارج أهون لقد سمع الحية تتنفس وتصدر أصواتا غريبة.. لم يذق النوم تلك الليلة.. حشرات لا يدري من أية فصائل هي كانت تلسعه لسعا لاذعا دون أن يحك أثرها.. كان الموت نائما إلى جانبه، يدرك تماما أنه سيلقى حتفه بمجرد حركة بسيطة يقوم بها.
يا لها من ليلة ! لم ينم الليلة التي قبلها، لم يذق طعاما مفيدا، ليلة اشترك فيها لجوع والسهر والخوف الشديد.
باب المغارة بدأ يرسل شعاعا من الضوء مبشرا بقدوم الصبح، حينما بدأت جارته البغيضة تتحرك وتنتفض من مرقدها وقد رفعت رأسها إلى أعلى كما فعلت ساعة دخولها.. شعر حسن بحركتها فوقه، زحفت وتركته متوجهة إلى باب المغارة.. أخذت الأحجار تحتك تحت جسمها الثقيل إلى أن رآها صاحبنا المتهالك توقف رأسها عند باب المغارة لحظات ثم تغادر إلى الخارج.
كان العرق يتصبب من جسمه غزيرا إضافة إلى آلامه الأخرى، والهواء داخل المغارة حار وفاسد، زادته عفونة رائحة الحية، أما الجو خارج المغارة فهو غالبا ملتهب لأن الوقت هو آخر الربيع.
لقد افترض حسن أن هذا المكان هو مسكن الحية المعتاد وبالتالي إنها لم تأت الليلة الماضية لأن الدورية كانت موجودة فأقفلت عليها الطريق إلى المغارة، وعندئذ قرر الخروج قبل رجوعها من جديد، فأخذ يجر جسمه بين الأحجار متوجها نحو باب المغارة.. لم يسرع في الخروج بل توقف عند حافة الباب ووضع عمامته فوق مقدمة البندقية وجعل يرفعها فوق حافة الباب كمحاولة يائسة ليرى ما إذا كانت الدورية ما زالت له بالمرصاد فربما يفعل شيئا.. أخذ يحركها يمينا وشمالا دون سماع أي صوت، فجمع شتات شجاعته واندفع إلى الخارج فشعر بوهن شديد وغثيان.. تلفـّـت إلى جميع الجهات فلم يجد للجنود أثرا.. ألقى نظرة حزينة على رفيقه الملقى على وجهه في التراب.. وما أن مضت عدة أيام على تلك الحادثة حتى صار حسن ابن الثالثة والعشرين أبيض الرأس، وكان يرد على كل من يسأله عن السبب بأنه شاب من أحداث ليلة واحدة.
