بعد أكثر من عشرين عامًا من العمل المتواصل، ومراحل من التوقف والاستئناف، شهدت مصر أخيرًا افتتاح المتحف المصري الكبير بمنطقة الأهرامات بالجيزة، في حدث وصفه كثيرون بأنه نقطة تحول كبرى في مسيرة الثقافة والسياحة المصرية، وبداية فصل جديد في علاقة المصريين بحضارتهم القديمة.
مشروع وطني بمقاييس عالمية
جاء المتحف المصري الكبير كمشروع وطني ضخم بدأ التفكير فيه منذ تسعينيات القرن الماضي، استجابة لحاجة مُلحّة تمثلت في ضيق مساحة المتحف المصري القديم بميدان التحرير أمام الكم الهائل من الآثار المكتشفة.
الموقع الجديد اختير بعناية فائقة، ليطل مباشرة على أهرامات الجيزة، في تجسيد رمزي للتواصل بين الماضي والحاضر، وليكون المتحف بوابةً حضارية تستقبل الزائر من كل أنحاء العالم عند مدخل هضبة الأهرام.
ويمتد المتحف على مساحة تقارب نصف مليون متر مربع، بتكلفة تجاوزت المليار دولار، ما يجعله أحد أكبر المشروعات الثقافية في العالم المعاصر.
رحلة طويلة من التحديات
مرت فكرة المتحف بمراحل متعددة؛ فبعد بدء الأعمال الهندسية في مطلع الألفية، توقفت الإنشاءات عقب أحداث عام 2011، قبل أن يُعاد إحياؤها بتوجيه مباشر من الرئيس عبد الفتاح السيسي في عام 2014، مع وضع جدول زمني صارم لضمان تنفيذ المشروع “على أكمل وجه”، بحسب ما أكده رئيس الوزراء مصطفى مدبولي.
وشارك في المشروع آلاف المهندسين والعلماء والأثريين المصريين، إلى جانب شركاء دوليين، أبرزهم الحكومة اليابانية التي قدمت دعماً مالياً وفنياً كبيراً عبر الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (جايكا).
تحفة معمارية وتكنولوجية
المتحف ليس مجرد مبنى ضخم لحفظ القطع الأثرية، بل تحفة معمارية حديثة تدمج بين التكنولوجيا والعمارة الفرعونية في تناغم بصري فريد.
فمنذ لحظة دخول الزائر، تستقبله المسلة المعلقة وتمثال الملك رمسيس الثاني، ثم يصعد الدرج العظيم الذي يعرض تماثيل ملوك مصر القديمة في تسلسل زمني يروي مراحل تطور الدولة المصرية.
ويضم المتحف أيضًا المجموعة الكاملة للملك توت عنخ آمون، التي تُعرض لأول مرة في مكان واحد، إلى جانب أكثر من 100 ألف قطعة أثرية من مختلف العصور.
كما يضم المتحف أيضاً “مركب الملك خوفو”، المعروف أيضاً باسم “مركب الشمس”، الذي يعود إلى فترة حكم الملك خوفو، وتم اكتشافه في خمسينيات القرن الماضي في منطقة أهرام الجيزة، على يد عالم الآثار المصري كمال الملاخ.
كما يحتوي على متحف للأطفال، ومركز ترميم هو الأكبر في الشرق الأوسط، وقاعات عرض دولية، ومناطق خضراء وحدائق فرعونية.
منارة للحوار الإنساني
خلال كلمته في حفل الافتتاح الذي حضره 79 وفدًا رسميًا من مختلف دول العالم، وصف الرئيس السيسي المتحف بأنه “فصل جديد يُكتب من تاريخ هذا الوطن العريق”، مشيرًا إلى أنه “ليس مجرد مكان لحفظ الآثار، بل شهادة حيّة على عبقرية الإنسان المصري، ومنبر للحوار ومقصد للمعرفة ومنارة للإنسانية”.
وأكد الرئيس أن إنجاز المشروع يعكس قدرة المصريين على مواجهة التحديات وتحويل الأحلام إلى واقع، بفضل التعاون بين الدولة ومؤسساتها وشركائها الدوليين.
ثورة في علم المتاحف
يرى الخبراء أن المتحف المصري الكبير يُعد نقلة نوعية في مفهوم العرض المتحفي، إذ يعتمد على علم “الميوزيولوجي” الحديث الذي يهدف إلى تحويل الزيارة إلى تجربة إنسانية وتفاعلية.
ويشرح المؤرخ المصري بسام الشماع أن تصميم المتحف يعتمد على الإضاءة الطبيعية والإسقاطات الضوئية التي تبرز ملامح القطع الأثرية دون التأثير على سلامتها، كما تحاكي بعض القاعات الظواهر الفلكية مثل تعامد الشمس على وجه تمثال رمسيس الثاني.
بوابة جديدة لمستقبل السياحة
بحسب وزير السياحة والآثار، شريف فتحي، فإن افتتاح المتحف الكبير “سيعيد رسم الخريطة السياحية لمصر”، متوقعًا أن ترتفع أعداد السياح إلى نحو 18 مليون سائح خلال العام المقبل، بفضل هذا الصرح الثقافي الذي يجمع بين الأصالة والحداثة.
وسيُفتح المتحف أبوابه للجمهور في الرابع من نوفمبر 2025، ليكون مركزًا عالميًا للثقافة والتعليم والبحث العلمي، وواجهة حضارية لمصر الحديثة التي تستلهم ماضيها لتبني مستقبلها.
