الأخبار الشاملة والحقيقة الكاملة​

2025-12-05

10:31 صباحًا

أهم اللأخبار

2025-12-05 10:31 صباحًا

التفاعل بين النص والقارئ _ ( الجزء الثاني والأخير )

خلخلة.jpg2

عبداللطيف البشكار

يقرأ البشكار ناقدا محللا آليات الخطاب الشعري في ديوان : تمثال يخون الحجر للشاعر محيي الدين محجوب من حيث (التفاعل بين النص والقارىء) . وجدير بالذكر قبل بدء القراءة _ أن عبداللطيف البشكار كوذيخة قدم رسالته للماجستير في شعر محي الدين المحجوب حيث صارت صوره البلاغية في هذا الديوان مادة للبحث .

__________**

وفي استاطيقا القصيدة تندلع حجارة  بصيغة الجمع تعدد القصدية المنضوية تحت نطاق الأصل الحجري الذي يقابله الفعل ،وهنا صيد ثمين بسنارة الشاعر حجرة أنثى ،قد تكون الأخت أو البنت أو الصديقة لكنها في كل الأحوال ربتت عل كتفه ، وهي علامة على التهدئة والشعور بالأمان والطمأنينة والمؤاساة ، عاطفة مشحونة بمشاعر المحبة والرقة والجمال ، فكان درسا في الرهافة متماهيا مع قول “ محيي الدين بن عربي” : المكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه .

فكانت هذه الحجرة (الإنسانة) التي همشها مجتمعه الذكوري تعلمه الرهافة أي رقة الإحساس وحدته ،التي تنم عن نعومة وتهذيب الذوق ،نكاية بكم أيها الذكور المتحجرون . 

وتتوالي سيميائية الحجر في توليد شرر الدلالة مقترنة بغرائبية التصوير وخيبة الأفق في قوله :

كل حجر

مسقطه

رأسي !

لأن ملامحي من حجر

أخشى أن أقف

أمام المرآة !

الرأس مستقر العقل ،والحجر يحيلنا إلى كل معضلة يواجهها الإنسان في حياته ، دعوة للتأمل والتدبر،في سر الوجود الذي كان الحجر مرموزا لأسراره النائية فهو تارة صنم أو وثن معبود ممقوت ،وتارة مقدس ينبغي تقبيله كالحجر الأسود وقبة الصخرة ،وتارة كريم باهظ الثمن ،للوهلة الأولى استغربنا الصورة المركبة لعلاقة ظاهرية ،أفادت بأن رأس الشاعر يتعرض دائما لسقوط الحجارة عليه ،وعند فك التشفير بانت لذة المعنى ،والطابع مجازي فهذا انتقال لشيء من مكانه الأصلي إلى موضع آخر هذا النقل مدعاة للاستغراب ، والمتلقي للنص الشعري يدخل في حساب المحلل البلاغي .(إلى جانب العلاقة الأفقية بين العناصر المكونة للنص،هناك علاقة عمودية بين هذه العناصر والمتلقي )(3) .

ثم يرسم صورة فنية أخرى أشد غرابة ،تجسدها خشيته من الوقوف أمام المرآة ،لأن ملامحه من حجر ،وملامح الوجه أوصافه والتقاسيم التي تميزه عن الآخرين ليعرف بها ،ومنها ملامح الغضب وملامح الفرح التي يغلب عليها طابع المجاز ،هذه الخشية من كسر المرآة تحيلنا إلى الواجهة الخلفية للمعنى ،نبحث عن مدلول المرآة التي تعكس إلى الخارج ذلك العالم الداخلي المتلاطم للإنسان ،وحضورها في الشعر تتنوع مرموزا ته ،كانبعاثات الروح وفيوضاتها ،فتتخذ أشكالا مرئية مجسمة ،وعرفت عند المتصوفة المسلمين بعلم المناظر وغرف المرايا (4)  .

وهو ما يوصف كذلك بالتعرف على الذات في المرآة ،الذات المجردة باستبصار كنه فلسفة المرآة أي ماهية الظاهر لأنها تعكس تجليات لمعان كلية تتعلق بالوجود العام والوجود الإنساني ،تشغل اهتمامات السيكولوجيين ،وتثير وجدان وتأمل أصحاب الخبرة التصوفية مثلما تثير انتباه وتأمل الفيلسوف ،باعتبارها صورة منعكسة لأصل وتلازمه دائما ،ومن أشهر قصص المرايا تلك التي ظهرت بالبندقية في القرن السادس عشر ،وكانت أعجوبة سحرية افتتن بها الناس وأصبحت موضوعا أثيرا لدى الفنانين في أعمالهم الفنية ،وكانت بداية لنمو الوعي الذاتي والاستبطان وإدراك الهوية ،وقد حدد الفيلسوف محمود رجب أربعة أنواع للمرآة المجازية وهي ( مرآة الله ومرآة العالم ومرآة الإنسان ومرآة السحر) ، فمرآة الله تعني أن الله لا يمكن رؤيته مباشرة ، وإنما يمكن رؤية نوره منعكسا على شيء آخر أو متجليا فيه ،ومثلما صورت الأساطير الشمس كمرآة إلهية تعكس نور الله وأما مرآة العالم فتعني تصور العالم باعتباره انعكاسا لقوة إلهية محركة للكون ومباطنة ومتجلية فيه وأما مرآة الإنسان باعتباره عالما أصغر تنعكس فيه عوالم أخرى كالمثل العليا للحق والخير والجمال ويحضرنا هنا قول ابن عربي :

أتحسب أنك جرم صغير ..وفيك انطوى العالم الأكبر

وقول رسول الله عليه الصلاة والسلام “المؤمن مرآة أخيه” وأما مرآة السحر فهي أداة ذات قدرات خارقة للعادة والطبيعة ، ( وهذا الجانب يشكل موضوعا يمتزج حوله الخيال العلمي مع الخيال الأسطوري الخرافي) (1) .   

إن انعكاس ملامح الإنسان في المرآة تمثل اختبارا لنتائج تجارب حياتية ،ومغامرات قد تكون مهددة بأخطار لا تحمد عقباها إذا اختلت حساباته وتعود عليه بالندم والبوار ،لهذا كانت خشيته من الوقوف أمام المرآة لأنها قد تمثل انعكاسا لوقائع وأحداث ونتائج فكرية غير متوقعة، أو تأملات تنجلي عنها ، وهذه الملامح الحجرية قد تمثل الوجه الآخر للوحشية الإنسانية وتكشف أمامه حقائق قد لا يرتضيها ،تكون صادمة لتوقعاته ،فتكون ردة الفعل انكسار المرآة المجازية ودخوله في دوامة من الصراع النفسي والفكري.

ثم يضيف فعلا جديدا لإلقاء النخلة بحجرة ،وهو انتهاك حرمة الجار قائلا :

الحجرة

التي رميت بها

نخلة جاري

شجت رأسي

هنا الحجرة كناية عن إساءة الجار لجاره ،صورة فنية تأخذ فيها الحجرة مكانة الأفعال الرديئة والمزعجة ،والنخلة تشكل دالا له قداسته في البيئة العربية ،وحرمتها من حرمة صاحبها ،ثم يحيلنا الشاعر إلى صحوة ضمير الجار وشعوره بارتكابه لهذا الخطأ المخزي وأن هذا الفعل ارتد عليه بالخسران ،لأن قذف الحجرة عموديا وارتدادها إلى صاحبها يكون تأثيره بالغ الضرر ،وستنتج عنه جروح وكسور مؤلمة ، تتمثل في انهيارا لعلاقة والقطيعة بينهما .

نتابع تحولات الحجر المدلولية ، ومن الميثالوجيا الشعبية والتراثية يتكأ الشاعر على مرموز حجر المس قائلا :

سمحت

لهذا الحجر

أن يمسني !(1)

الجديد في الشعرية الليبية توظيف دوال لم يسبق انتخابها في القصيدة تتيح مواطنا جديدة للمعاني ،تترتب عنها مقدرة المتلقي على الانفتاح على كل ثقافات المحيط الجمعي المنتمي له ،قد يبدو الرمز المنتخب غريبا لجاهله فيستفز غريزته للاستقصاء (حين لا ينقلك الرمز بعيدا عن تخوم القصيدة ،بعيدا عن نصها المباشر ،لا يكون رمزا ،يصبح رمزا حين يتيح لنا أن نتأمل شيئا آخر وراء النص ،انه اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة ،انه البرق الذي يتيح للوعي أن يستشف عالما لا حدود له )(2) .

من المأثور المتناقل بين المجتمعات العربية فولكلوريا “حجر المس” حيكت حوله الكثير من القصص الأسطورية ،يظنون أن من يمسه يمتلك قدرات خارقة ،وحامله يتمتع بفطنة وعبقرية تتيح له القدرة على التنبؤ والحدس،كما أنه أي حجر المس يفتح كل الأبواب المغلقة لهذا سخروه لكشف الكنوز الغابرة ،كما يعتبرونه من أسرار طائر الهدد يخفيه في مكان ما وكلما احتاجه يخرجه ،وقد حمل الشاعر هذا الرمز بشحنة جديدة تتمثل في تتابع مدلولات الحجر النصية بالتماه مع إيحاءات تحلق به في عوالم تأملية تكسبه طاقات فائقة للكشف والحدس .

وفي إشارة إلى قوة الصمت في بعض المواقف الحياتية يقول الشاعر:

من لقن

الحجارة

صمتي؟!(3)

فصبر الإنسان وقوة تحمله على أهوال الحياة يمارس دوره فيها بكد واجتهاد وبصمت ومحافظته على كتم الأسرار المؤتمن عليها ،تضارع صلادة الحجارة وصمتها .

هذا الإنسان المتقلب الأهواء المتكبر والمتجبر،قد تصل به طموحاته وغروره إلى أن يؤله ذاته يقول الشاعر :

أنا

وثني

أمام الحجارة(1) .

سلوك الإنسان يحدد نمطه الفكري ،فعبادة ذوي المناصب والجاه والسلطان ،والتزلف إلى ذوي الشأن ،تجسد مظهرا من مظاهر الوثنية .

 وفي صورة أخرى يتحول الحجر إلى مكان للجوء كمخبأ وينتج عن هذا الفعل مزاوجة بين موقفين متناقضين لتحولات سيمياء الحجارة ،الأول يمثل رمزا للنماء والارتواء (الماء والغيمة) بإرساء دعائم الحق والعدل ،والثاني قد يفسر على أنه مقاوم لكل من يقف أمام تحقيق تلك المبادئ السامية ،وتصبح الحجر سدا ميعا لتحقيقها ،فتكون ردة الفعل بإزالتها من طريق الحق يقول في هذا المقطع :

أختبئ في الحجر

تارة ماء

أبلل ريق غيمة

وتارة

نارا أذوِّبُها !

وفي المقاطع الأربعة المتبقية ،يحاول الشاعر إخبارنا أنه تعلَّم الكثير من تحولات الحجر ومدلولاته التي يأتي في مقدمتها الصمت ،لكنه يشعر بالقلق والخوف بالخطر؛ لأن القيم الجمالية التي أرساها مهددة بالزوال من قبل قوى الشر من جند البشاعة يقول :

في مدرسة الصمت

تتلمذت على الحجر

أنا وعدة تماثيل

مهددون بالانقراض .

لو أنني تمثال

أخون الحجر

فاضت المرارة

وطق الحجر(1) . 

هذا الكائن البشري المخلوق الغامض الذي تكتنفه الأسرار، يتمنى احتلال مكانة الحجر متجسدا في صورة تمثال حجري بشري ،لتتوحد معطيات الدلالة في شفرة واحدة ويكون الدال هو المدلول ،مختتما مسيرة الهدم والبناء لجماليات تعانق الجديد ، وهنا ترسو بنا مراكب التأويل في صورة تترجم حالة سيكولوجية انفجارية لرفض الواقع المظلم ،تجسدها علامتان من المأثور وهما فيضان المرارة كناية على شدة تفاقم الانكسار والإحباط واليأس ،وأن هذه الأحوال أدت بالإنسان إلى بلوغه أعلى درجات الرفض لواقعه ،وهي دعوة للثورة عليه فقد طق الحجر .

الشاعر الجديد ينتشل الكلمات من الغدير الذي غرقت فيه ينسلها كلمة كلمة من نسيجها القديم ويخيطها في نسيج جديد ،إذ يفعل ذلك يفرغها من شحنتها القديمة ـ من دلالاتها وتداعياتها  يملؤها بشحنة جديدة ،تصبح لغة ثانية لا عهد لنا بها ،لابد لتفهمها وتذوقها من الخبرة والممارسة ، إنها مفاتيحنا إلى عالم الشعر2 .

لقد تراءت لنا كيفية تشكل الأفقين ـ الأفق السائد وأفق الانتظار وتوالي انهيارات هذا الأفق ،وغصنا في أعماق النص الغائرة بفك شفراته،وتمكنا من ترسيخ كم لا بأس به من المعاني ،وكلما قرأناه برؤيا أخرى أو في زمن وظروف مختلفة ،ستظهر معاني أخرى ، وتلك سمة قصيدة الحداثة .

_________________**

محيي الدين بن عربي،رسالة الذي لا يعول عليه،الكرمة للنشر،بيروت لبنان ط1،2017 .

ينظر محيي الدين محجوب ،ديوان تمثال يخون الحجرص69 .

عبد الفتاح كيليطو ،الأدب والغرابة ،دار توبقال للنشر،ط1 ،الدار البيضاء المغرب،2007 م.

محمود رجب ،فلسفة المرآة ،دار المعارف مصر القاهرة ،ط1، 1994 م .

ينظر محيي الدين محجوب،ديوان تمثال يخون الحجر .

أدو نيس علي أحمد سعيد،زمن الشعر،دار العودة ،بيروت لبنان،ط1،1972م.

ينظر محيي الدين محجوب ،ديوان تمثال يخون الحجر .

محيي الدين محجوب، ديوان تمثال يخون الحجر، إمكان للنشر،طرابلس ،ليبيا،ط1،2019ص66.

أدونيس، زمن الشعر، دار الآداب،1985، ط1،بيروت، لبنان،ص241.

شارك المقالات:

مواقيت الصلاة

حالة الطقس

حاسبة العملة

PNFPB Install PWA using share icon

For IOS and IPAD browsers, Install PWA using add to home screen in ios safari browser or add to dock option in macos safari browser

Manage push notifications

notification icon
We would like to show you notifications for the latest news and updates.
notification icon
You are subscribed to notifications
notification icon
We would like to show you notifications for the latest news and updates.
notification icon
You are subscribed to notifications