أعاد البيان الأخير للمفوضية الوطنية العليا للانتخابات، الذي أكدت فيه جاهزيتها الفنية لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية فتح الباب واسعًا أمام تساؤلات حاسمة حول مستقبل العملية الانتخابية.
فبينما ترى المفوضية أن الكرة باتت في ملعب المسؤولين السياسيين لتوفير المناخ التشريعي والأمني والمالي المطلوب، تتصاعد في المقابل أصوات شعبية وسياسية تتهم الأطراف المتنفذة والبعثة الأممية بإطالة أمد الأزمة ومنع الليبيين من الوصول إلى صناديق الاقتراع.
وفي ظل هذا التوتر المتبادل، يبدو أن ليبيا تدخل مرحلة جديدة من التجاذبات، قد تحدد مسار البلاد لسنوات قادمة: إما الذهاب إلى الانتخابات، أو البقاء في دائرة التنازع والانقسام.
ووسط ذلك تشهد ليبيا خلال الأيام الأخيرة حراكًا شعبيًا وسياسيًا متسارعًا للمطالبة بإجراء انتخابات رئاسية تضع حدًا لحالة الجمود والانقسام التي تعيشها البلاد منذ سنوات، وسط تصاعد الدعوات للاعتصامات المدنية والاحتجاجات الواسعة، وتباين في المواقف بين مؤسسات الدولة والبعثة الأممية والفاعلين السياسيين.
حراك الوطن يواصل الضغط الشعبي ويطالب بتعليق الدراسة
يواصل حراك الوطن إصراره على مطالبه الداعية لإجراء انتخابات رئاسية في أقرب وقت، معلنًا استمرار الاعتصام المدني والتظاهر السلمي داخل ساحة الكيش.
ووجّه الحراك خطابًا رسميًا إلى مراقب التربية والتعليم بنغازي، حيّا فيه جهود المراقبة ودورها الوطني، مؤكداً تقدير الحراك لمشاركتها في التعبير عن إرادة المواطنين المطالبين بالانتخابات.
وطالب الحراك في خطابه بإخطار جميع المؤسسات التعليمية العامة والخاصة بـ تعليق الدراسة إلى حين تحقيق المطلب الشعبي، معتبرًا أن الانتخابات هي السبيل لإنهاء حالة الجمود السياسي وإعادة الشرعية للمؤسسات.
وأكد الحراك استمراره في نضاله السلمي، مشددًا على أن: “أهل العلم هم البوصلة الأخلاقية والفكرية للمجتمع… دوركم ليس ثانوياً بل ركيزة في حماية الوطن من الفوضى.”
واوضح الحراك أن العصيان المدني وسيلة حضارية استخدمتها شعوب كثيرة، مبيّنًا أن غياب صوت النخب يترك الساحة لغير المختصين.
مطالبات بانتخابات عاجلة ودعوات للاحتجاج
وفي سياق متصل، دعا عميد بلدية إجدابيا علي بوحليقة إلى سرعة إجراء الانتخابات الرئاسية لوضع حد لـ”العبث والفوضى” التي أنهكت ليبيا، مؤكدًا: “من حقنا أن نعيش في دولة آمنة مستقرة… نطالب بأن يكون لليبيا رئيس دولة منتخب ينهي هذا العبث ويضع حدًا لدوامة الفوضى.”
وأضاف أن استمرار الفراغ السياسي أدى إلى نهب مقدرات الوطن وانتشار الفساد، مؤكدًا أن الاستقرار لن يتحقق دون رأس واحد يقود الدولة بصورة شرعية.
كما أكد رئيس لجنة الأمن القومي بالمؤتمر الوطني العام السابق عبد المنعم اليسير أن الانتخابات لن تُجرى دون ضغط شعبي واسع، قائلاً: “لن يكون هناك انتخابات دون خروج المواطنين في احتجاجات يومية وتعطيل الحركة في مختلف المدن.”
وأوضح أن التحرك يجب أن يكون في كل المدن والقرى وليس مقتصرًا على المراكز الكبرى، مؤكداً أن الأجسام السياسية الحالية لا ترغب في انتقال السلطة إلى الشعب عبر انتخابات جديدة.
وأشار اليسير إلى أن ليبيا تدور في “حلقة مفرغة”، وأن الشعب وحده قادر على فرض البدء في تنفيذ الانتخابات وفق القوانين الصادرة عن مجلس النواب.
المفوضية العليا للانتخابات تؤكد جاهزيتها لإجراء الانتخابات
من جانبها، أعلنت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات أنها جاهزة تمامًا لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في منتصف أبريل 2026، عقب الانتهاء من الانتخابات البلدية.
واشترطت المفوضية توفير التمويل والتأمين والاتفاق على آلية دعم العملية الانتخابية في ظل وجود حكومتين.
وشددت في بيانها على استقلالها وحياديتها، داعية إلى تمكينها من ممارسة دورها السيادي بعيداً عن التدخلات.
وأكدت المفوضية ضرورة قيام البعثة الأممية بالتركيز على حل الخلافات المتعلقة بالقوانين الانتخابية الصادرة عن لجنة 6+6، محذرة من الانخراط في مسارات تزيد التعقيد ولا تعالج جذور المشكلة.
انتقادات لبعثة الأمم المتحدة
في المقابل، صعّد عدد من أعضاء مجلس النواب انتقاداتهم للبعثة الأممية، فقد أكد عضو مجلس النواب علي الصول أن المجلس يرحب بإجراء الانتخابات بعد توحيد السلطة التنفيذية، لكنه اتهم البعثة بعرقلة إعلان جاهزية المفوضية، قائلاً: “البعثة تشترط إعادة تشكيل مجلس إدارة المفوضية ورئيسها، وإجراء تعديلات على القوانين المتوافق عليها.”
كما حذر النائب سعيد امغيب من أن بقاء حكومة الوحدة الوطنية “يزيد صعوبة الوصول إلى بيئة انتخابية مناسبة”، مشيرًا إلى أنّ: “الشروط التي وضعتها المفوضية لإجراء الانتخابات غير قابلة للتنفيذ في ظل سيطرة التشكيلات المسلحة على طرابلس.”
واعتبر أن الحديث عن خلافات حول قوانين لجنة 6+6 “غير منطقي” لأنها جاءت نتيجة توافق محلي ودولي.
في المقابل قال عضو المجلس الأعلى للدولة سعد بن شرادة إن ليبيا تعيش سلسلة انقسامات منذ انتخابات 2012 و2014 وما تلاها من حكومات متوازية عمّقت الأزمة.
وأكد أن كل محاولات التوحيد من الصخيرات إلى برلين وجنيف فشلت أمام صراع الأطراف.
وأضاف أن الليبيين اليوم أمام خيار وحيد هو عدم تكرار أخطاء الماضي بعدما ظلّ المواطن مجرد متفرج على أزمات البلاد.
وشدد على أن الانتخابات الرئاسية ليست الحل النهائي، لكنها الخطوة الأهم لاستعادة الشرعية ومنع تشرذم الدولة.
جاهزية المفوضية والعراقيل القائمة
من جانبه أكد المدير العام السابق للمفوضية سعيد القصبي أن المفوضية دائمًا جاهزة، مشيدًا بنجاحها في إدارة الانتخابات البلدية “بمهنية عالية”.
لكنه نبّه إلى أن الجهوزية الفنية لا تعني جاهزية الشارع، مشيرًا إلى أن التجاذبات السياسية خلقت تحديات أمنية ولوجستية.
وشدد القصبي على ضرورة التنسيق الكامل بين مجلس النواب والمفوضية لضمان قوانين قابلة للتطبيق، مؤكدًا أن القوانين الحالية غالباً تصدر “معيبة وصعبة التنفيذ”.
ويرى المحلل السياسي محمود الرملي أن المؤشرات الحالية تعكس غياب المتطلبات التشريعية والسياسية والمالية اللازمة للانتخابات، وأن القوانين الحالية تحتاج تعديلات جوهرية، بينما التمويل “غير مستقر”.
كما أوضح الباحث رمضان معيتيق أن إعلان المفوضية جاهزيتها يرفع الحرج عنها لكنه يضع “حرجًا سياسيًا” على الأطراف التي باتت مطالَبة بتقديم حلول قابلة للتطبيق.
وأكد أن أي عملية انتخابية تحتاج إلى عملية سياسية تسبقها لضمان مشاركة عادلة ونتائج مقبولة.
أما المحلل صلاح الدين العبار فأشار إلى أن الإشكال يكمن في عدم التوافق بين الأجسام السياسية رغم جاهزية المفوضية فنياً، موضحًا أن قوانين 6+6 لم تلقَ قبولًا شاملًا من جميع الأطراف، بما فيها تيارات إسلامية وجماعات متطرفة “لا تؤمن بالديمقراطية”، مما زاد تعقيد المشهد.
ووصف العبار الوضع الحالي بأنه “غير منطقي وغير قابل للتطبيق”، مشيراً إلى أن الأمم المتحدة تراقب هذا السجال دون أن تقدم حلولاً حاسمة.
مع تصاعد الضغط الشعبي، وتزايد البيانات السياسية، وتأكيد المفوضية استعدادها الفني، يقف المشهد الليبي اليوم أمام لحظة فارقة، فالطريق إلى الانتخابات لم يعد محكوماً بالقدرة الفنية، بقدر ما بات رهينًا بالتوافق السياسي وبتحقيق الحدّ الأدنى من الشروط الأمنية والمالية التي طالبت بها المفوضية.
وبين مطالبات الشارع، ومواقف البرلمان، وتحفظات البعثة الأممية، وتنافس الحكومتين، يبقى السؤال مفتوحًا: هل تنجح ليبيا أخيرًا في انتزاع موعد حقيقي لصناديق الاقتراع؟ أم أن البلاد تتجه إلى مرحلة جديدة من التأجيل والصراع على القوانين والشرعية؟
