د. عبدالغني حسن العريبي
منذ تأسيس الكيان الصهيوني عام 1948، لم يكن الصراع العربي الإسرائيلي مجرد نزاع حدودي أو صراع على أرض، بل هو مواجهة بين مشروعين متناقضين: مشروع عربي مأزوم يبحث عن ذاته وهويته، ومشروع صهيوني متماسك الأهداف يعمل بخطى ثابتة نحو تحقيق ما يُعرف بـ”إسرائيل الكبرى”؛ أي إسرائيل المهيمنة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا على الشرق الأوسط، دون الحاجة إلى احتلال مباشر.
أولاً: جذور الضعف العربي
بدأ الضعف العربي مع تفكك النظام الإقليمي العربي بعد نكسة عام 1967، حيث فقدت الأمة العربية مركز قوتها العسكرية والسياسية، وظهرت حالة من الانكفاء القطري على حساب المشروع القومي. فبدلًا من العمل الجماعي، تحوّل العالم العربي إلى فسيفساء من المصالح المتضاربة والأنظمة المتناحرة، مما جعل القرار العربي مرهونًا بموازين القوى الدولية والإقليمية.
كما ساهمت الانقسامات الأيديولوجية بين القوميين والإسلاميين والليبراليين في تآكل الجبهة الداخلية، وأصبح الصراع على السلطة داخل الدول العربية أكثر أهمية من مواجهة الخطر الخارجي. ومع تفاقم الأزمات الاقتصادية وغياب العدالة الاجتماعية، انشغلت الشعوب العربية بقضاياها اليومية بدل الانخراط في مشروع نهضوي موحد.
ثانياً: انهيار منظومة الردع العربي
في السبعينيات والثمانينيات، شهدت المنطقة تراجعًا واضحًا لمنظومة الردع العربي. فبعد توقيع مصر لاتفاقية كامب ديفيد عام 1978، تخلّى أكبر جيش عربي عن المواجهة الشاملة مع إسرائيل، مما أحدث فراغًا استراتيجيًا حاولت دول أخرى، كالعراق وسوريا، ملأه، لكنها وجدت نفسها لاحقًا غارقة في صراعات داخلية وحروب عبثية استنزفت مقدراتها.
ثم جاءت حرب الخليج الثانية عام 1991 لتقضي على ما تبقى من التضامن العربي. فبدل أن يتوحد العرب ضد العدوان والاحتلال، انقسموا إلى محاور متصارعة، واستغلت واشنطن وتل أبيب هذا الانقسام لتعزيز حضورها الأمني والعسكري في المنطقة، تحت شعار “حماية الأمن الإقليمي” أو “مكافحة الإرهاب”.
ثالثاً: التطبيع كوجه جديد للضعف
في السنوات الأخيرة، تحوّل التطبيع مع إسرائيل من “استثناء” إلى “قاعدة” في العلاقات الإقليمية. فبدلًا من أن يكون السلام مشروطًا بانسحاب الاحتلال من الأراضي العربية، أصبح السلام هدفًا بحد ذاته، حتى في ظل استمرار الاستيطان وتهويد القدس وحصار غزة.
تسعى إسرائيل من خلال هذه الاتفاقيات إلى إعادة تشكيل البيئة السياسية في المنطقة بما يخدم مشروعها الأكبر، أي التحول إلى القوة المركزية التي تتحكم في التكنولوجيا والاقتصاد والأمن في الشرق الأوسط. وبذلك، يتحول الضعف العربي من حالة سياسية إلى بنية دائمة في النظام الإقليمي الجديد، تُبنى عليها ترتيبات اقتصادية وأمنية تعيد تشكيل المنطقة وفق الرؤية الإسرائيلية – الأمريكية.
رابعاً: إسرائيل الكبرى – من الجغرافيا إلى النفوذ
إن مفهوم “إسرائيل الكبرى” لم يعد بالضرورة جغرافيًا كما كان يُطرح في الأدبيات الصهيونية القديمة التي كانت تتحدث عن دولة تمتد من النيل إلى الفرات. فالمشروع اليوم يتخذ شكلًا أكثر ذكاءً ومرونة، قائمًا على السيطرة الاقتصادية والأمنية والإلكترونية بدل الاحتلال المباشر.
إسرائيل باتت تسعى لتكون المركز التكنولوجي والاستخباراتي والاقتصادي للمنطقة. فهي تصدر التقنيات الزراعية والعسكرية والرقمية، وتُقيم شبكات تعاون أمني واستخباراتي مع عدد من الدول العربية تحت غطاء “مكافحة الإرهاب” أو “الاستقرار الإقليمي”. وبذلك تتحقق الهيمنة دون إطلاق رصاصة واحدة.
كما أن مشاريع الربط الإقليمي – من خطوط الطاقة والغاز إلى ممرات التجارة والاتصالات – تُصاغ اليوم بما يضمن بقاء إسرائيل طرفًا لا غنى عنه في أي معادلة مستقبلية. إنها إسرائيل الكبرى بالمعنى الحديث: دولة صغيرة بالجغرافيا، كبيرة بالتأثير والاختراق.
خامساً: البعد الدولي واستثمار الفوضى
استطاعت إسرائيل أن تستثمر الفوضى التي عمّت المنطقة العربية منذ 2011 في تعزيز موقعها الإستراتيجي. فمع انشغال الدول العربية بصراعات داخلية – من سوريا إلى اليمن وليبيا والسودان – تحولت إسرائيل في نظر الغرب إلى “واحة استقرار” وشريك موثوق في حفظ المصالح الغربية.
كما استفادت من حالة التفكك العربي لتطبيع وجودها في إفريقيا، وتعزيز علاقاتها مع القوى الصاعدة كالهند والصين وروسيا، مما مكّنها من توسيع دائرة نفوذها العالمي، في وقت تراجع فيه الدور العربي حتى في محيطه القومي.
سادساً: النخب العربية وتراجع الوعي الجمعي
يُضاف إلى ذلك ضعف النخب السياسية والفكرية العربية في صياغة خطاب مقاوم أو مشروع بديل. فبدل بناء سردية عربية حديثة تعيد تعريف الأمن القومي والمصلحة المشتركة، انشغل الكثيرون بخلافات أيديولوجية ضيقة أو بتبرير التبعية للقوى الكبرى.
تراجعت مفاهيم العروبة والوحدة إلى الهامش، وتحولت الجامعة العربية إلى منصة للبيانات الشكلية، بينما صارت القضايا المصيرية – كفلسطين وسوريا واليمن – ملفات ثانوية في الأجندة العربية. ومع غياب الإعلام المستقل والمجتمع المدني الفاعل، باتت الشعوب نفسها تُقاد نحو التطبيع النفسي، وكأن القضية الفلسطينية لم تعد قضيتها.
سابعاً: طريق استعادة التوازن
رغم هذا الواقع المظلم، فإن إمكانية استعادة التوازن العربي ليست معدومة. فالتاريخ يُظهر أن الأمة العربية تنهض كلما وصلت إلى حافة الهاوية. إعادة بناء القوة العربية تبدأ أولاً من الوعي الجمعي، أي من إعادة تعريف العدو والصديق، ومن استعادة الثقة بين الشعوب ومؤسساتها الوطنية.
كما أن بناء مشروع عربي جديد لا يمكن أن يقوم على العداء المطلق لإسرائيل فقط، بل على أساس مشروع نهضوي شامل يربط بين التنمية والعدالة والسيادة. فكلما كانت الدولة العربية قوية بمؤسساتها واقتصادها وتعليمها، تراجعت قدرة إسرائيل على اختراقها.
إضافة إلى ذلك، فإن التقارب العربي – العربي بات ضرورة وجودية، لا ترفًا سياسيًا. فالعالم يتجه نحو التكتلات الكبرى، بينما العالم العربي ما يزال يعيش في جزر منفصلة. المطلوب اليوم هو بناء نظام إقليمي عربي جديد، قائم على المصالح المشتركة لا على الولاءات الضيقة.
الخاتمة :
إن مشروع “إسرائيل الكبرى” لم يعد حلمًا توراتيًا، بل رؤية استراتيجية تُنفذ بخطوات محسوبة في ظل ضعف عربي مزمن. لكن هذه الهيمنة ليست قدرًا محتومًا، فالعرب يمتلكون مقومات النهضة إذا ما توافرت الإرادة السياسية والرؤية المشتركة.
المعركة اليوم لم تعد فقط على الأرض، بل على الوعي والاقتصاد والتكنولوجيا. ومن يملك القدرة على توحيد إرادته وطاقاته هو من سيحسم مستقبل المنطقة. أما استمرار الضعف العربي، فسيجعل من إسرائيل ليست فقط “دولة كبرى” في الشرق الأوسط، بل العقل الذي يدير المنطقة كلها.
