عبدالله الغزال
ذات ليلة بعد الحرب ، في الوادي المقدس ، زاره الكهل ليلا..
تجالسا صامتين حول موقد خامد، من الفج الدامس حيث الأجمة اصاعد نحيب حشرات الليل المختبئة هناك في الأحراش أسفل السفح المظلم، انسابت الألحان الجنائزية وارتقت في موجات لولبية خفية ثم استكانت على ظهر الربوة في ترنيمة تنضح بالفجيعة..
أشاح ببصره عن ظلمة السفح، ونظر إلى الأفق الشمالي القصي. أسراب منمنمة من ضوء وهاج تخترق الحائط المعتم البعيد لغابة النخيل العظيمة التي تحيط بمسراته..
بدأ الكهل الحديث:
– “مسراته” تتلألأ على الرغم من كل هذا الليل..إنها حقا الضفة الطيبة..
تردد الجليس قليلا، ناور، انشغل بالنظر إلى الحائط المعتم لغابة النخيل البعيدة، ثم قال أخيرا:
– الغابة صامدة أيضا..
– أجل أجل.. فسائل النخيل لا تموت. تتلاحق الأنفاس في الأجنة لقرون تحت نيران الشموس. تسفها الرياح الحارقة ولكنها لا تموت..لا تمحو يد الريح سوى مسارب الأفاعي والثعابين..
– أكمل:
– فسائل النخيل كلمات، ومسارب الثعابين ليست بالكلمات..
بدا كأنه لم يكن ينتظر ردا من الجليس. التفت يمينا. شبح عربة جاثم في الظلمة دون حراك، وعلى جانبها تتكئ آلة الحرب..
قال مركزا النظر في وجه الجليس:
– حقا إنها ليست رحلة صيد..
– ما سفحت دم طير أو بهيمة قبل هذا..لعلك تعلم هذا علم اليقين يا مولاي.
لم يكترث الكهل..بدأ يغني بصوت خفيض كهمهمات حزينة خفية:
(ذلق، ذو مِرَّة سنان الليل،
أجنة ضريرة كلماتي، مطوية في تراقيم الأهلة والحساب..).
أنهى الكهل دندنته ثم سكت..
وسطا صمت أشد جبروتا ووحشة على البرية الهاجعة..
انجابت غمامة عبرت فوق وجه القمر، فبدا وجه الكهل مربدا، وهنا أدرك الجليس الصمت المطبق الذي جثم على قعر الوادي، صمتت الحشرات في تلافيف الأجمة، أدرك أنها تسترق السمع أيضا لنبوءة الكهل الوشيكة..
رفع الجليس رأسه إلى القمر اللامع، وقال في حيرة:
– أراك تعود تلهج بلسان السر كعادتك سيدي..
أجاب الكهل كئيبا:
وهل في الكون سوى المحجوبات والأسرار؟
استدرك موضحا:
– سر الباديات والخافيات، وسر الجائدات والمانعات.
أضاف في غموض ملتفتا إلى التواهيم الرمادية البعيدة التي يرسمها الحضور الجبار لغابة النخيل العظيمة حول “مسراته”في لوحة الليل النائي:
– الليل سبق النهار في قصة الخلق، وما هو بسابقه بعدها، وعقارب الظلمة جالت في أجناب الروح الخفية قبل قوالب الطين والحمأ، وقبل انفلاق بذرة النور.
قاطعه الجليس مستفهما بآهة بينما يبعثر رماد الموقد، ومضت جمرات هزيلة في الظلام، لمح في عيني الكهل شيئا، شيء يتشكل في تلك الأغوار المسكونة بالحنين.
قال في خجل:
– ما ظني إلا أذى أصابك من أحد أهل الأرض،. سيدي..!
استمر الكهل يهمس:
– أشقياء كثر يتكلمون بلسان الرب، وبلسان الأرض أيضا، الدنيا هي عمارة الفقد، والأرض لم تكن يوما دار كسب لعارف ولا جاهل، وما أحزنني أمر الخلق يوما، فما أطلق امرؤ عقاربه السارحة في خرائب نفسه في وجه عبد إلا آتاه الله عصا موسى وآتاه أمر الحرف أيضا، وما الحرف إلا ظل الرب في هذه الأرض، وما أوكله يوما لشيطان، وهيهات هيهات أن ينال تفاحة الأمر إلا من سحق عقارب النفس..
هنا، أدرك الجليس مرام الكهل. رفع رأسه، فلم يجد غير الظلمة..
فقد اختفى الكهل دون أن يند عنه صوت، كقطرة مطر غاصت في الرمال..
(من رواية ما بين البرزخين/ عبدالله الغزال).
