عائشة الاصفر
اعتبر نفسي ابنة جغرافيا عربية شاسعة من المحيط إلى الخليج بكل حضاراتها وتاريخها انتصاراتها وانتكاساتها، لهجاتها وحتى رائحة قهوتها وأسماء خبزها وموروثها الذي سقتني إياه بلادي ليبيا بكل طقوسها المتنوعة
إنها المرأة المتميزة في مجالات عدة ربما قريبة من بعضها ففيها التخيل والكتابة والمغامرة وربما يراها البعض بعيدة .. عائشة عمر اﻷصفر ولدت عام 1956م .. نشأت وتقيم في سبها ودرست بمدارسها حتى الشهادة الثانوية 1974م وانتقلت إلى بنغازي لتصبح بعد فترة زمنية دراسية خريجة جامعة قاريونس . بنغازي قسم الفلسفة عام 1978م. وبعد نيل شهادتها الجامعية اشتغلت بالتعليم. نشأت الروائية مدينة سبها درة الجنوب الليبي وتحكي قصتها بتراتبية وتأني قائلة : تربيت في أسرة شعبية وفي حي شعبي بمدينتي الصحراوية “سبها”، عاصمة الجنوب الليبي، درست بمدارسها العامة، عشت استقرار المملكة طفلة في الستينيات، وواكبت فترة انفتاح ليبيا فترة السبعينيات والثمانينات ، ودعم النظام للمرأة الليبية ، وإقرار قانون الأحوال الشخصية الخاص بالعلاقة الأسرية ، اقتحمت المرأة كل المجالات، وزيرة وقاضية وطيارة ، 2011 رأيت حلم بعض الليبيين بالتغيير، اهتز بيتي تحت قصف الناتو وانهارت واجهته الزجاجية على رؤوسنا، شاهدة على الحروب الأهلية والنزوح والتهجير، ثم إلى محاولات المصالحة والترميم، إنني ابنة ثقافتي الليبية العربية الثرية أحمل عُقدها وأفضالها سواء، اعتبر نفسي ابنة جغرافيا عربية شاسعة من المحيط إلى الخليج بكل حضاراتها وتاريخها، انتصاراتها وانتكاساتها، لهجاتها، وحتى رائحة قهوتها وأسماء خبزها وموروثها الذي سقتني إياه بلادي ليبيا بكل طقوسها المتنوعة من البحر إلى الصحراء، من السرايا الحمراء إلى الجبل الأخضر، وحتى قمم الأكاكوس بالجنوب الليبي ..

تحصلت على وسام الريادة في مجال الطيران المدني كأول امرأة تقود الطائرة في ليبيا ..يناير/1974. وعلى رخصة إجازة طيار خاص / يونيو 1974. وكانت على رأس سرب الاستعراض في الافتتاح بمطار طرابلس 1974م. مؤسسة لحركة زهرات وفتيات الكشافة بالجنوب الليبي.وشاركت في المخيم الرابع للمرشدات العربيات بالعراق 1972م. وحائزة على وسام الوفاء الكشفي من مفوضية كشاف سبها. من رائدات الحركة النسائية والعمل الشعبي التطوعي ومحو اﻷمية منذ اوائل السبعينات. وشاركت حينها بالمسح التوعوي لكل مدن وقرى الجنوب من الشاطئ وحتى غات على الحدود الجنوبية. حضرت العديد من الملتقيات والندوات الثقافية. قُلدت وسام الدولة (الفاتح) للريادة في مجال العمل الشعبي. فى أول تكريم للرائدات 1989م. والرائدة الوحيدة المتحصلة على وسامي ريادة في مجالين اثنين في ذات التكريم. عضوة في أول لجنة شعبية للشباب والشئون الاجتماعية. مشاركة في أول دفعة للمقاومة الشعبية على مستوى ليبيا بمعهد جميلة الازمرلي طرابلس 1972م . أول مقدمة برامج من الجنوب الليبي في إذاعتي سبها المسموعة .. الاصفر الزوجة الكاتبة الحالمة القوية كما من تخيرته لتكمل حياتها قربه المؤرخ في الموروث الليبي والكاتب والشاعر وعضو هيئة التدريس بالجامعات الليبية الدكتور علي برهانة .. تسترسل قائلة :
والإنسان ابن بيئته ، ووعي الإنسان هو ثقافته الشعبية وخبراته المعرفية المتراكمة والتي تتشابه لدينا في المجمل كعرب ، وإن كان لكل جغرافيا خصوصيتها .. والكاتب نتاج ذلك .. ما حل بالمنطقة العربية من أحداث كان (كالمستجير من الرمضاء بالنار) ، كان طفرة ، ربما غير ناضجة ، ربما لسنا مؤهلين كمواطنين بسطاء وارتجاليين لخوضها ، إلا لتجرنا لصراع فكري ومعتقدي وأيديولوجي كما في بعض الدول ، أو لحروب أهلية دمرت النسيج الاجتماعي وفككت بناء الدولة وما ترتب عليه .. وهذا ألقى بأثره على المرأة والرجل سواء ، صورة المرأة الليبية لا تختلف عن قريناتها العربيات ، كانت صورة نمطية بسيطة ، ذاتية ، حاملة فقط للتراث ، تحولت صورتها إلى الموضوعية والأشمل ، صورة المرأة الفاعلة والمؤثرة ، ذلك حتى قبل التغيير ، وبالمجمل لا زالت الصورة ملهمة رغم الأدلجة العقائدية والفكرية الذي اجتاحت المنطقة بعد 2011 .

نعم ربما كل هذا التراكم المعيشي بين القسوة واللين جعل الأنثى في نصوصي تبدو مزيجا من التمرد والخوف والحنين والمقاومة فكان كل ما أكتب اسقاطا على الذات و على الوطن وهل الوطن إلا ذواتنا ، فنحن نتسرب من أحزانه ومسام طينه ، الذات الإنسانية الحيّة بطبيعتها متقلبة ومتغيرة ، لا تهدأ ولا تستقر، وما تحمله الأنثى من تناقضات إلا صورة لحالة التشظي وانعكاس صورنا في مراياه المتصدعة ، الأنثى في نظري هي سر الكون ورمز الخصب ، هي الحياة بكل تناقضاتها وتجددها ، الأنثى في الأدب هي الأصل، أصل الطبيعة وأصل الآلهة وأصل الكلمة.
من آرائها حول الأمور الرقابية على الكاتب والكتابة :
قبل الرقابة علينا أن نعي أن القيم لا تتجزأ، الرقابة وليدة العسكرة وغياب النقد الحقيقي، النقد ثقافة، أقصد النقد كمفهوم عام وليس المختص بالأدب، النقد تنشئة وأسلوب حياة مبكرة، طريقة تعاطينا معه في منهج حياتنا هو المسؤول عن تخبطنا العام وعن تغول الرقابة وعن غياب الديمقراطية قبل أن تكون الرقابة عينا على الأدب، والكاتب مواطن غير آمن حتى قبل أن يكون كاتبا، الكل يحاصر ويراقب، الحاكم والشارع، وإمام الجامع، ورجل الأمن، وحتى كلاب الشارع تنبح وتراقب، والكاتبة كُرة وسط هذا الطوق الملغوم، أما الرقابة الداخلية فنحن نحملها في لا وعينا الداخلي، الإنسان العربي كتلة مضطربة تسير على قدمين، على مرّ التاريخ الكاتب محاصر والكلمة تقاوم .



نالت عائشة الاصفر العديد من الجوائز طيلة حياتها العملية والأدبية ولدى روائيتنا الفيلسوفة الحكيمة رؤيتها الخاصة حول هذه الجوائز والتكريمات فترى أن الجوائز الأدبية قد لا تعكس القيمة الحقيقية للنص كما لا يمكن اتهامها بتبادل المصالح الثقافية الأنيقة فقد تفوز النصوص الجيدة ، وقد يحدث أن تغيّب نصا قيّما وترفع نصا على حساب آخر. وللحظ دوره إذا توافق النص مع ذائقة نقاد الجائزة .. ومما تحصلت عليه من جوائز وتكريمات وفي الجانب الإذاعي لم تكرم بل ولم يتحدث عنها كثيرا رغم أنها أول مقدمة برامج من الجنوب الليبي في إذاعتي سبها المسموعة والمرئية منذ العام 2005
كتب عن أسلوبها الأدبي المتميز عديد المواقع الإلكترونية الأدبية وتناولها عديد النقاد الموضوعيين بنقد بناء لكتاباتها وأهم ما تميزت به لتنال عديد الجوائز وتكون في مصاف الكاتبات المهمات في بلادها :
_ الخيال والفنتازيا : تستخدم الكاتبة أساليب مثل “الميتافيزيقا” و”الفنتازيا” في أعمالها.
_ القضايا الإنسانية: تتناول في رواياتها قضايا إنسانية عميقة مثل هجرة الأفارقة عبر البحر المتوسط.
_ ازدواجية السرد: تطبق أسلوب “ازدواجية الرواية” حيث تربط بين حبكتين قصصيتين مختلفتين بمهارة فائقة.
- قُلدت درع الدولة للتميز والإبداع من قبل وزارة الثقافة 2020. وحضرت وكرمت في عدة منتديات أدبية ، تعد من رائدات الحركة النسوية والكشفية، وشاركت” بالمخيم العربي الرابع للمرشدات العربيات” بالموصل. 1972.
- منحت وسام الدولة “الفاتح” للريادة في مجال الطيران كأول امرأة تقود الطائرة في ليبيا 1974.
- وكأول امرأة تقود الطائرة في ليبيا كرمت2017 من قبل ” مندوبية ليبيا بجامعة الدول العربية”، ومنحت درع التميز من قبل المجلس الأعلى للدولة 2024.
- وثقت ضمن أربعين رائدة ليبية في حملة (تحالف رائدات ليبيا) الذي نظمته المنظمات الأهلية ومنظمات التمكين بالشراكة مع معهد صحافة الحرب والسلام 2020.
- وثقت ضمن كتاب “موسوعة شهيرات النساء في ليبيا” للمؤرخ د. محمد سعيد القشاط 2020. وثقت ضمن مئة رائدة في السلسة الأولى من كتاب ” رائدات ومتميزات ليبيات” للأستاذة عايدة الكبتي 2021.

هكذا حضرت كلماتها وصوتها وصورتها حين أعلنت عن فوزها عبر فيديو وصل للجنة التحكيم والمحتفين بها وسط فلسطين العربية // السلام عليكم ولله الحمد والمنة.. الفوز الحقيقي هو هذا الحب الذي تنفسته في انسكاب تفاعلكم ودعمكم ومحبتكم الكبيرة … أنا منكم وبكم ولا شيء بدونكم يا (هلي وعزوتي) وموطني الأبدي … اليوم أهمس لكم وأنا استقبل خبر فوز روايتي “إيشي” بجائزة القدس للرواية المنشورة، اختلطت داخلي مشاعرُ البهجة والارتباك مشاعرُ الفرح والشجن، أحسستُ بفلسطين تعانقني وتحضنُ معي “ايشي” وعذاباتِها.
“ايشي” روايةُ الهم الإنساني.. رواية الإنسان المأزوم والشخصية المنقسِمة في مجتمعات الظل والشوارع الخلفية. طوال المشهد الروائي، يهتز “احبيّب” تخجله مقدمته الديكية باحثا عن جذوره، وتتأرجح “إيشي” بين نظرة استاذة التاريخ الواثقة ونظرة الخادمة المنكسرة.. بين نظرة ممتلئة بالانتماء وأخرى كافرة بالهوية.
عرفتهما في شارع 40، وفشلوم، والصابري، والحي رقم2، فوز إيشي هو انتصار لبطلة الرواية “إيشي”، وكل إيشيات العالم، لكل المعنفات والمهجرات، لكل أمهات الفقد والفجيعة. هو انتصار للقضايا الإنسانية ولقيم الجمال وللإبداع الأدبي، ولهم جميعا أهدي هذا الفوز.
أهدي هذا الفوز لمدينتي الملهمة “سبها” بكل خصوصيتها وتفاصيلها المدهشة. أهديه لكل أصدقائي الذين دعموني بقراءاتهم، ولقرائي الذين أحملهم معي.
كما أهدي هذا الفوز للرواية الليبية والعربية، وإلى الناشر “مكتبة طرابلس العالمية”.
وقبل ذلك إلى وطني العربي الكبير، وإلى بيتي الكريم ليبيا.
أتقدم بالشكر على هذه الجائزة المرموقة، للشعب الفلسطيني العظيم، ولرعاية دولة رئيس الوزراء الدكتور محمد مصطفى، ولمعالي الوزراء: وزير الثقافةا. عماد حمدان، ووزيرة شؤون المرأة ا. منى الخليلي، ووزير شؤون القدس د. أشرف الأعور، على جهودهم الكبيرة في دعم الثقافة والإبداع الأدبي في هذه الظروف الاستثناء. شكر خاص للأستاذة أميرة عبد الله مدير منسق الجوائز.
الشكر موصول لمجلس التحكيم الموقر . المجد لفلسطين.. والحرية للأسرى.. والخلود لشهدائنا الأبرار
عائشة الأصفر/ ليبيا جائزة القدس للرواية 2025
وهي القائلة عن موقف الكتاب الليبيين إزاء القضية الفلسطينية .. إن القضية الفلسطينية عند الليبيين كما العرب ليست فقط التزام أخلاقي، أو توثيقي إنها قضيتنا، تشرّبنا هذا في وعينا الجمعي، وعلّمَنا التاريخ أن العدو لا يفرق بيننا في أطماعه، لكنه نجح في أن (يفرق بيننا وبيننا) بهذا الخطاب العنصري المسموم الذي زرعه وسطنا، نشعله بيننا بجهالة، ونحسب انّا قد أحسنّا صُنعا.

حين سألها أهم صحفيي جريدة الأهرام المصرية ذات حوار أدبي شائق مع روائية رائدة قائلا صفى لنا كيف بدأت خطواتك الأولى في الكتابة هل من الحكاية أم من الوجع .. جاء ردها فلسفيا أدبيا أنيقا محكما واثقا فقالت : تبدأ الكتابة حيث يبدأ إعمال العقل، تفجرها داخلنا أسئلة كافرة عصية تنشب أظافرها في أذهاننا. تسيل الكتابة داخلنا قبل الورق. قبل الورق كتبت الكثير من الروايات ليلًا على سقف غرفتي وتحت لحاف نومي، لكنها تغادر إلى الشمس مع ضجيج الصباح، عادة الوجع يسبق التعبير عنه، والكتابة تدوير للوجع في حكاية تخييلية موازية للواقع، انهما مستقلان يربطهما إيقاع الألم .
وهي كروائية كاتبة لا تعتبر الكتابة الأدبية نوعا من الترف اللغوي أو قدرا وجوديا لا يمكن الهروب منه بل ضرورة لكنها تبقى حالة فردية خاصة وأجمل ما صورت به الرواية انبثق عنها فقالت :
” الرواية رئةُ القلق وكفّ الطمأنينة “
” الحياد لا يتناسب والكتابة الأصيلة، على الكاتب أن ينحاز للإنسان، أن يكون موضوعيا وليس محايدا ، منتبها لقلمه، حريصا على لملمة وترميم أي انكسار،”
……………
” الأديب ليس بواعظ ، لكنه يستفز القارئ ليتعظ، وليس بمؤرخ، لكنه ينبش حلق التاريخ ليتكلم “
………….
حين وجه إليها نقدا بناء حول أبطال رواياتها الأدبية الماتعة بأن (( المتابع لأعمالك الأدبية يلحظ أن أبطالك يعيشون على حافة الانهيار لكنهم لا يسقطون وكأنك تكتبين داخلهم لا تكتبين عنهم … وأن الذاكرة الليبية ربما لم تعد ما قادرة على الحكي لأن الخوف قد نال الكثير من صوتها … )) ردت بقولها : حقا هذه ملاحظة قارئ ناقد. الواقع أبطالي يسقطون ويسقطون، لكنهم يصرون على النهوض، ربما هو الوعي بعدم الاستسلام. ربما هو ديمومة الصراع وسط بشاعة الحياة، أظنها الحياة نفسها. هوسي في الكتابة هي الشخصية المأزومة والمسحوقة والمهمشة في كل مجتمعات الظل، دائما أقول إن الشخصية هي حُمّى الرواية وهذيانها.
أما عن استمرار وقدرة الحكي فصوت الذاكرة هو الوحيد الذي لا يصمت ، الذاكرة صوت الخوف والألم، القبح والجمال، وأجراس القلق، الذاكرة الليبية كما جميع الشعوب ذاكرة منتجة حيّة لا تضعف، تضيء أنفاقها المعتمة، تهرّب التاريخ ، وتنقل سيَر من باع ومن اشترى، تجعل من خوفها نعالا وتمضي .
وقد وجهت أيضا روايتها “النص الناقص” بأن كان السرد فيها كان الستار المستخدم للبوح السياسي المقنع ربما لأن القمع جعل لغتها تختفي وراء الرمز .. وبشجاعتها على مواجهة النقد البنائي للنص لا الهادم بلا موضوعية أعلنت بأن (( الرمز ملح الرواية ، الرمز ليس للنجاة من القمع فقط ، الرمز ملهم لخيال الكاتب ليتسلطن ويعوم في نصه، ومحفز للقارئ ليؤول ويستقرئ، لولاه لكان النص أشبه بمقالة صحفية أو تحقيق وثائقي على قناة تلفزيونية ))
صدر للروائية ست روايات : أدرج الروايات حسب تسلسل الإصدار زمنيا :
- اللي قتل الكلب (2007)
- خريجات قاريونس (2007)
- اغتصاب محظية . (سجلت 2008_ وصدرت 2012 )
- النص الناقص .( 2017 )
- علاقة حرجة . (2019 )
- إيشي (2023)
- في روايتها “اغتصاب محظية” سعيت إلى توحيد صوت الوعي الأنثوي وتخليصه من الفردية لأنها تؤمن بأن :
” الصوت الأنثوي كما أشرتُ رمز مفتوح وجامع متعدد الأصوات ، والإنسان الفرد يجمع في تكوينه إنسانية العالم بأسره ، العالم إنسان كبير، والانسان عالم صغير . والأنثى حركة الشمس وهي تصنع الأيام ، هي تنفّس التراب بالبلل، إنها حياة كاملة ”

- “اللي قتل الكلب” هل نجحتِ في مزج السخرية بالأسى كما حافظت على وصف الألم بكل رشاقة دون أن تفقده عمقه وأثره وعن هذا الوصف تقول :
” الألم الحقيقي يصف نفسه ، طريقتي في الكتابة عفوية غير مدروسة (ولي ثوابتي)، أنا لا أخطط للكتابة، لحظة الكتابة أشعر أن قلبي ممتلئ وثقيل، أريد أن أتخلص من أشياء مزعجة حد القلق والغضب حد الاكتئاب، أرميها على الورق فتنبثق أمامي شوارع ووجوها كأني أعرفها فأتبعها، الواقع أنني أكتب فقط ما يشغلني وبصدق “
أختم سيرتها العطرة ومسيرتها العظيمة كي يعرفها القارئ عن كثب أكثر بمقتطع من روايتها آيشي //


ذات ليلة؛ برقت عواصفها الحمراء في عينيه؛ أغلق “جدي” النوافذ والأبواب، خفتُ، صرت أجري وأستغيث؛ اكتشفت أني مصاب برهاب الاحتجاز؛ حاولت الهرب، قبض على عنقي وهمس في وجهي: (عليك سماع الحقيقة؛ نلد أبناءنا كبارا؛ والديّك مذ يفقس يرفع عقيرته بالآذان؛ علا الزغب شاربك؛ ولابد أن تعرف سرك؛ أنت ابن أبيك؛ لكن القصة كبيرة يا “معتوه”!).
عندما رفع كمّه لتجد يده وأصابعه الكبيرة فرصتها في التعبير، وزاد وجهه اقترابا من وجهي، حتى كنسه بحاجبيه، وتنهد فيّ قرقرة هوائية طويلة، عرفتُ أن الأمر مثير!
ــ اسمعني يا منحوس ــ قال “جدي” وزاد:
بحثنا طويلاً عن “والدك”، لا أذكر العام؟! ربما قبل ميلاد أخويك؛ أو بعد؛ ربما أواخر الستينات أو قبل، ربما السبعينيات؛ لكن القاطع هو اختفاء والدك، قِيل خُطف؛ فوالدك فتق تاجرا يكبر مع بضاعته؛ قيل قد تعرض لقطاع طرق، خُمن قد تطاول على بوابة طلبت رشوة، أُشيع قبل يومين (جاب سيرة البَيّ في هدرزة دكانية)..
كنتُ أطالع شفتي “جدي” لأستوعب بلا فائدة، وهو يسهب:
يتاجر “والدك” بالمقايضة مع تجار “النيجر”، و”تشاد”، يرسل شاحنات السلع التموينية المدعومة، يشتريها بثمن زهيد من الحكومة باسم جمعية استهلاكية وهمية، تحمل الزيت والدقيق والسكر، لتعود بأعواد الطيب والبخور والعطور الأفريقية، التي اجتاحت السوق الليبية، بتزايد طلبها من البيت الليبي، خاصة بمدن سبها واجدابياوالكفرة، ذات الخيوط المتصلة بالعائدين من دول الجنوب، خرج “والدك” ولم يعد، كلما عصف القبلي بوهجه تُذيب الدموع الساخنة عيني “جدتك” حتى أظلمت، وأكل الحزن ربيع أمك، واستمر الحال على الحال، إلى أن كان ليل!
ذات ريح سوداء خانقة حاصرت أنفاس أمك؛ دخل عليها مندفعاً يشدّ بطنه كأنه في حالة احتباس أو إمساك، لم يكلّمها، يلوج ويموج؛ يتوجع في وتيرة تطول مع الشهيق لترتخي هنيهة مع زفرة لا تكتمل، أخذ يدور وسط الدار ويتأوه، أشقاها حاله عن الفرح به، أقفلت مخارج البيت وفتحاته حتى لا يسمعه الجيران، ثم عزلته بغرفة قصيّة في جزع وذهول، تحاول التماسك وهي تهوّن عليه وتطببه بالأعشاب المهدئة، يتلوى “والدك” وكأنه امرأة في حالة مخاض؛ يرفع عقيرته ويخفضها مع كل طلقة وجع؛ هزّته أمك ما الأمر؟! لماذا تنوح؟! أين كنت؟!
ـــ (وسط ديكة؛؛ ديكة شرسة”)! لفظها ثم تشنّج وأكل لسانه، أوحت إليه “أمك” أن ارم وجعك بعيدا، هام أبوك لأيام في الوادي تحت “انْخِيلَة” حتى تنفس، انزوى بعدها “والدك” غارقًا في صمته؛ وبعد أن طال العهد بما أصابه؛ حاول العودة إلى سوقه التجاري الذي أوكله لأحد عملائنا، وإلى حياته الطبيعية؛ لكن الإعصار قوي، والقادم كان طوفانا!
ـــ أرجوك “جدي” دعني أخرج! صفعني وصاح:
ـــ (ديك جبان.. استمع إلىّ):
أنت ذاك الكائن المشئوم قرب “انخيلة”، والذي عاد به “والدك” في تلك الظهيرة القائظة حيث التهب الوادي وتقيأ جوفه!
لن أفضحني لك يا “إيشّي”!
لن أكون سوى جينة شاذة تسلقت خيبات الحياة، ألا تكفي هذه المقدمة الدميمة لعزلتي؟ نعم أنا ديك ومنتوف، وإلا لما استباحني “توكة”، وطردتني الجامعة، ولم أحظى حتى باسم أو وظيفة!
