يشكّل الصندوق الأسود للطائرة أحد أهم الأدوات التي يعتمد عليها المحققون في كشف أسباب حوادث الطيران، إذ لا يتكوّن من صندوق واحد كما يعتقد كثيرون، ولا يحمل لونه الشهير، بل يضم جهازين متينين باللون البرتقالي أو الأصفر، صُمما لتسجيل أدق تفاصيل الرحلات الجوية وتحمل أقسى الظروف، ليبقيا المصدر الأوثق لمعرفة ما جرى في اللحظات الأخيرة قبل الكوارث الجوية.
وتلزم القوانين الدولية جميع الطائرات التجارية بحمل جهازي تسجيل معلومات، يُعرفان رسمياً باسم “مسجلات معلومات الطائرة”، ويختص الجهاز الأول، وهو مسجل بيانات الرحلة، بحفظ القيم الفيزيائية للطيران مثل السرعة والاتجاه والارتفاع ومعدلات الصعود والهبوط، بينما يختص الجهاز الثاني، مسجل صوت قمرة القيادة، بتسجيل المحادثات داخل قمرة القيادة، والتواصل مع أبراج المراقبة، والتعليمات التي يصدرها الطاقم أثناء الرحلة.


وتُعد هذه الأجهزة حجر الأساس في التحقيقات، إذ أسهمت في توضيح ملابسات ما يقارب 90 في المئة من حوادث الطيران حول العالم، وفق تقديرات خبراء الطيران، وغالباً ما يتم تثبيت الصندوقين في مؤخرة الطائرة، باعتبارها الجزء الأقل تعرض للتدمير في حال وقوع حادث.
ورغم شيوع تسميته بالصندوق الأسود، إلاّ أن لونه الحقيقي برتقالي أو أصفر لسهولة تمييزه بين الحطام، وتعود أسباب التسمية إلى عدة روايات، منها أن المسجلات الأولى كانت داكنة اللون من الداخل لحماية أشرطة التسجيل من الضوء، أو أن الاسم ارتبط رمزياً بالكوارث الجوية، فيما يُروى أن صحفي وصف الجهاز أمام مخترعه الأسترالي ديفيد وارن بالصندوق الأسود الرائع، لتعلق التسمية لاحقا.

ويعود الفضل في ابتكار هذا الجهاز إلى عالم الطيران الأسترالي ديفيد وارن، الذي اقترح عام 1953 تصميم جهاز يسجل تفاصيل الرحلات، عقب سلسلة حوادث لطائرات “كوميت” أثارت قلق واسع حول سلامة الطيران المدني، ورغم أن ابتكاره قوبل بالرفض في بلاده في البداية، وانتقادات من بعض الطيارين الذين اعتبروه وسيلة رقابة، فإن الاهتمام البريطاني به فتح الباب لتطويره واعتماده عالمياً.

وصُممت الصناديق السوداء لتحمّل ظروف قاسية للغاية، إذ تُحفظ داخل قوالب شديدة الصلابة مصنوعة من مواد مثل التيتانيوم، ومحاطة بطبقات عازلة قادرة على مقاومة صدمات تفوق أضعاف قوة الجاذبية، ودرجات حرارة تتجاوز ألف درجة مئوية، إضافة إلى ضغوط مياه تعادل الغوص إلى عمق يصل إلى 20 ألف قدم تحت سطح البحر، كما يمكنها الصمود في مياه البحر لمدة تصل إلى 30 يوماً دون فقدان البيانات.
وتُجهز هذه الأجهزة بنظام بث إشارات فوق صوتية عند سقوطها في الماء، تعمل على تردد 37.5 كيلوهرتز، بما يساعد فرق البحث على تحديد موقعها على أعماق قد تصل إلى 3500 متر. ويتراوح سعر الصندوق الواحد ما بين 30 و85 ألف دولار، في مقابل دوره المحوري في حماية مستقبل الطيران المدني وكشف الحقيقة بعد الحوادث.
وبينما يظل الصندوق الأسود صامتاً أثناء الرحلات، فإنه يتحول بعد الكوارث إلى المصدر الأهم لفهم ما جرى، وحماية الأرواح مستقبلاً عبر الدروس المستخلصة من كل حادث.
