عن المجموعة القصصية ( كروم الحروف نواحها )
للقاص / فتحي العبدلي
حشد من الناس قد جمعهم الفضول فالتفوا متحلقين حول جسد لنحيل افترش رصيفا على قارعة الطريق متدثرا بأوراق صحف قديمة , جثة باردة سرق الموت دفء الحياة منها .. كان المسكين مرتديا أسمالا بالية مبللة برذاذ البحر الناتد عن تكسر أمواجه وارتطامها بالجرف الصخري .. قبض مبتسما كأنه كان يسخر من ملاك الموت لحظة قدومه .. هذا ما قالته إحداهن فأردفت الأخرى : كأنه سئم شقاء الدنيا فرحب بالمنية مبتهجا .
الصورة تبدو من قريب لاحدهم بمنتصف العمر تقريبا غث الشعر كثيف اللحية نحيل الجسد , كانت نظارته ساعتها ملقاة جواره .. وبعض من أوراقه قد ذرتها لا رياح بالأنحاء .. ثمة قلم رصاص من النوع العادي جوار مظروف معنون ينتظر يدا تحمله , عثر بجيب معطفه أثناء الاستدلال لمعرفة من يكون على جزء من رغيف متيبس وبعض قطع من العملة المعدنية .. بمعصمه ساعة يد عتيقة يعلوها الصدأ متوقفة عن العمل منذ أمد بعيد .. أتراها فضلت الانتحار قبله صمتا فوأدت ما يرحمها من دقائق وإلا فكيف لها أن تصمد وهي تحصي زمن شقاء صاحبها , أم انه هو الذي لم يعد يكترث بدوران عقاربها دون جدوى وهي التي لم تحمل يوما من البشرى شيئا مفرحا عدا غصة .. فقرر لما النظر إليها وهي التي تنهش من عمره الأيام والسنين …
عثر بين طيات الورق المقوى الذي كان يفترشه على جواز سفر علربي منتهي الصلاحية منذ عقدين مثبتا عليه صورته يوم كان فتيا .. يوم كان يتقد شبابا ونظارة لا تنبيء من مآل صاحبها الأخير شيئا , كان من بين أوراقه المهترئة صورة لطفل صغير بحضن امرأة تتوشح رداءا .. يفيض وجهها بحنان الأمومة .
حمل المسكين على نقالة أخيرا بعد أن أعياه المسير وكلت الخطو ردلاه ها قد توقف بالنهاية فما عادت قدماه تقوى على حمل هموم رأسه .. لم تعد تختط شيئا على الطريق .. كم توقف المسكين مرارا قبالة واجهات المحال الزجاجية محدقا لما خلقها ليمضي متابعا سيره بانكسار الذي لا يملك إلا الانسحاب المذل فيبتاع به منها خيبة كم تنهد قنوطا وهو يرى تشابك الأيادي ولحظات العناق بالمساءات الدافئة .. كم من مرة بحث بالجوار عمن يحدثه فيروي له مأساته .. عن أنيس يهمس إليه عله يصغي فيخرجها صورة أمه ينتحب بحضرتها فإذا بيدها يحضرها من بعيد قهره .. تدعك فروة رأسه مربتتا على حطام هامته كمن تقول له : لا عليك بني فما عادت الدنيا تســـاوي .