يبنيها حديقة سريّة .. يزرع بها ما يطيب
علي الجعكي
إن لم يكن ثمة معنى للسفوح الواطئة فالجبال لها معنى آخر في لغة الصحراء يصيبنا بالدهشة ويزرع فينا مزيدا من الغموض. فهو يليق بارتفاعها وصلابة بنيانها وثباتها في وجه الريح. القليلون يمرون بالقرب منها. يرفعون رؤوسهم ليملأوا خيالهم بهيبتها وحدة صخرها، لكنهم قد لا يعرفون ما يحيط بها وبأسرارها وجذورها الضاربة في العمق. لم يفكروا بأروقتها التي تسكنها الريح والحكايا وكائنات بكل الأعمار والأحجام والألوان. مسكن الصمت والعزلة وأسرار الوحدة. الخواء يتناسل بين شقوقها تبعثره الريح الى الجهات الأربع. كل الأشياء مغمورة بالشمس والغبار وصدأ الوقت ونزيف الليل. أعواد معاندة شحيحة تعيش سنوات عمرها دون أن تعرف طعما للماء تلك الروح السحرية والحلم الذي لا تخلو منه ذاكرة حية.
” من رواية ابن الغبار”
الكاتب والقاص الليبي “علي الجُعكي” الذي وافته المنيّة ظهيرة يوم سبت الموافق للحادي والعشرين من شهر أغسطس للعام 2021م ولد في مدينة الخمس عام 1952م وطيلة حياته الوظيفية عمل معلما وقد انخرط بالعمل لسنوات في القسم الثقافي بمكتب النشاط المدرسي بمراقبة التعليم بالخمس إلى أن أحيل للتقاعد عام 2016 م بعد أن مارس مهنة التدريس التي أحبها وقدمها بطريقة مختلفة لطلابه في العديد من المدارس الحكومية.
الأستاذ الاديب/ علي محمد مصباح الجعكي لقب (ملك القصة في ليبيا) فقد ساهم بنصيب وافر في كتابة القصة القصيرة .. وكان رحمه الله عضوا بارزا برابطة الكتاب والأدباء الليبيين .. ناشرا أعماله ذات الطابع القصصي المميز عبر العديد من الصحف والمجلات الليبية ومنها: مجلة (الفصول الأربعة)، مجلة (الثقافة العرببة) ، ومجلة (ﻻ)… ومن قصصه: “زهرة الليل“، ”سر ما جري للجد الكبير“، ”اموت كل يوم“، وله رواية جاهزة للطباعة تحت عنوان ”ابن الغبار وحياة اخري“… صدرتا بعد فترة .. وترجمت قصته ”اموت كل يوم“ للغة اﻻنجليزية ولغات اخري، وتدرس الإن بجامعة كامردج بقسم الدارسات الشرقية. وهذه القصة موجودة علي سوق اﻻمازون الإمريكي وعلي موقع افضل القراءات اﻻنجليزية إثراء للمكتبة المحلية والعالمية .. وكتب عنه في أحد القراءات المهمة حول كتبه :
” ولعل أهم مؤشر تسفر عنه القراءة هو تمسك الجعكي بعالمه العجائبي الذي ينحو باتجاه أسطره اللغة، والتأني والتأنق في محرابها الأثيري الذي لا ينضب، والحفر عن المعنى الدفين في أعماق الذات من خلال لغة شعرية عالية استطاعت تجاوز واقعية الحدث وحشد الشخصيات إلى مستوى تجسيد حوارية الذات المونولوجية المتأملة المغرقة في لا مباشرتها؛ لتكشف عن تعاطيها مع القضايا بلغة شعرية عالية تعرج في معارج صوفية متسامية، من خلال خروج القاص إلى عوالم خارج نطاق الذات المباشرة. ويزداد ترسخ هذه القراءة من خلال التزام الجعكي بالوفاء للأسطر المكانية الصحراوية، التي سجلت حضوراً طاغياً في عشر قصص من مجموعته القصصية متجاوزاً واقعه القروي والمديني الذي لم يحظ إلا بقصة واحدة (شاهد عيان) “
الجعكي ملك القصة القصيرة والذي لم يكن إلا كماه حينما كتب الروايات ” حياة أخرى ” ، ” ابن الغبار ” وقد نشر نتاجه القصصي عبر عديد الصحف والمجلات الليبية ومنها : الصحف السيارة واليومية للمؤسسة العامة للصحافة .. مجلة (الفصول الأربعة)، مجلة (الثقافة العرببة)، ومجلة (ﻻ)… كتب القصة القصيرة والرواية .. ولقب (ملك القصة القصيرة). ومن قصصه: “زهرة الليل“، ”سر ما جري للجد الكبير“، ”اموت كل يوم“، اللعبة ، وله رواية جاهزة للطباعة تحت عنوان ”ابن الغبار وحياة اخري“.. ترجمت قصته ”اموت كل يوم“ للغة اﻻنجليزية ولغات اخري، وتدرس الآن بجامعة كامردج بقسم الدارسات الشرقية .. ولأهميتها الباحث علي سوق اﻻمازون الأمريكي يجدها كما علي موقع أفضل القراءات اﻻنجليزية .

ملك القصة علي الجعكي الذي أثرى المكتبة المحلية والعربية والعالمية .. لم يكن بخيلا في عطاءاته العملية المتعلقة بالآداب والفكر والفنون الإبداعية فخلال مسيرته نظم وأشرف على مجموعة متنوعة من الفعاليات والأنشطة الثقافية والفكرية والمنهجية ، كان عضوا فاعلا في رابطة الكتاب والأدباء الليبيين، نشر نتاجه الأدبي والقصصي في أبرز المطبوعات والصحف والدوريات المحلية والعالمية ، صدرت له عدة مجموعات قصصية نذكر منها: (وأموت كل يوم) ، (سر ما جرى للجد الكبير)، ورواية (ابن الغبار)، ومجموعة (زهرة الليل) ، كما حظيت بعض أعماله بالترجمة للغة الإنجليزية .. كتب حول قصته (اللعبة) الأديب العراقي “صالح جبار الخلفاوي” أترك لكم قراءنا الأعزاء جزء منها هنا ومن ثم ألحق قراءة الأديب صالح الخلفاوي عنها :
” قصة اللعبة “ في الطريق إلى بيته بالضاحية الجنوبية، لم يشعر السيد فاضل بتلك الطمأنينة والحيوية التي عرفها طوال حياته . أي نوع من الألم الذي هاجمه هذه الليلة ؟ يشعر بأنه ليس كلياليه الماضية التي أمضاها في مكتبه، يدقق حسابات الشركة بعد الدوام الرسمي . شعوره بالوحدة جعل القلق يهاجمه، والأفكار المخيفة تعشش في رأسه، حاول أن يضفي نوعاً من البهجة على نفسه، لكنه ملّ التمثيل بسرعة . كان يفيض قلقاً واضطراباً لم يعرفه إلا منذ ذلك اليوم الذي انشقّ فيه إلى رجلين مختلفين تماماً .. حيث أخذ يصارع آلامه في وحدة قاسية … يكابر، يرسم تلك الابتسامة العذبة .. يلبي طلبات رؤسائه .. يناقر زملاءه بودّ . لكنه في الداخل يتفتت .. خلاياه تتمزق، يعبث بها الخراب كل يوم .. ترك المكتب إلى بيته عساه يبتعد عن مشاغل العمل وهمومه .. كابوس مزعج جثم على صدره … لفحه هواء الطريق الرطب .. فك أزرار كنزته الصوفية وربطة عنقه . فتح صدره لموجات الهواء البارد .. كان يمنّي نفسه بالراحة، وبنوم عميق بين أحضان سريره الوثير، لكن الألم يطحن أعماقه .. جبينه ساخن إلى درجة لا تطاق .. يختنق .. تحسس صدغيه بأطراف أصابعه .. العروق تنبض بقوة .. الدم يتدفق إلى رأسه .. ربما لبدانة جسمه أثر فيما يجري له .. نصحه طبيبه بفقد بعض من وزنه الزائد .. تباً لذلك الطبيب الماكر …كان يخبئ شيئا وراء نظارته السميكة قرأت ذلك في عينيه . . رغم إلحاحي لم يفصح لي عن سبب الدوار الذي ألمّ بي فجأة . لماذا كان يدقق في التحاليل بصمت ؟ وما سر الجهاز الذي ربطني إليه طويلاً؟ وما معنى تلك الخطوط المتعرجة على شريط الورق ؟ .. يا إلهي … يا لهذا الألم . أخرج منديله ومسح به على جبهته ووجنتيه، وزاويتي فمه .. تعثر برصيف الشارع الجانبي المؤدي إلى بيته . الطريق لم يكن مضاءً، كما انزرعت على جانبيه حفر مليئة بالوحل والمياه القذرة .. شجيرات مهملة كانت تعابثها الريح، فتزحف أوراقها الجافة على الإسفلت . لقد آثر السيد فاضل الانزواء في هذه الضاحية الهادئة، البعيدة عن قلب المدينة حيث الضوضاء التي تستفزه .. عندما يكون في قلب المدينة يحسّ بالإرهاق والتوتر .. الجدران الإسمنتية تضيق حوله .. كأنه في عنق زجاجة .
حينما قرأه الأديب العراقي قال عنه : (القاص “علي محمد الجعكي” يخوض في سرد مفصل عن حالة البطل ومعاناته من أزمة قلبية بوصف مسهب جدا التأويل في النص يأتي من النهاية حيث يدخل الى بيته وتواجهه اللوحة :
(( كانت لوحة زيتية تزين المدخل. وقف عندها طويلاً كأنه يراها لأول مرة.. أشعل لفافة ومسح الغبار عن اللوحة القديمة.. كانت لسفينة هرمة تغالب العاصفة.. بعض الأشرعة كانت تتمزق )) .. يتمارى النص ما بين معاناة البطل وما ترسمه اللوحة من خطوط تنبئ عن نهاية محتومة يتخوف منها – القصة كتبت بأسلوب الراوي العليم ولا شك ان القاص يتمتع بخبرة جعلته يطوع النص وفقا لإرادته حيث تناص هاجس القطار الذي يمضي بعيدا ولوحة تتمزق فيها الاشرعة. قصة مستوفية شروط الابداع .

ونقتبس أيضا مما كتبته الكاتبة والقاصة “أمينة الصبيحي” عن تجربته القصصية التالي: (إن الجعكي من أكثر الكتّاب الذين قرأت لهم يكنون احتراما كبيرا وبالغا للقصة القصيرة، يعمل على بناء قصته رويدا رويدا، كحديقة سريّة يبنيها ويزرع بها ما يطيب، حتى يجهزها ويخرجها للملأ.. تامة. فلا يمكن لأحد أن تقع بين يديه إحدى نصوصه، وألا ترتسم على وجهه علامات الدهشة مما قرأ، وألا يتم إرساله لأحد العوالم المتخيلة الخاصة به)..
كرم ملك القصة القصيرة المعلم الفاضل والأديب الجهبذ علي الجعكي في العام 2020 م وسط مراسم احتفال يشبهه قيمة وتقديرا من قبل الكتاب والأدباء ولفيف من أهله وأهل مدينته وطلبته في حفل تزامن وعيد الاستقلال ونال جائزة أدبية تحت مسمى (( جائزة عيد الاستقلال للثقافة )) وكانت تلك الدورة الأولى التي تحدد فيها الجائزة ومسماها التاريخي .. رحمه الله وطيب ثراه لما أثرى العلم والمتعلمين وقدم الكثير خلال رحلته التي حين أوشكت على النهاية ربطته في سرير المرض وسلم رسالته الدنيوية صابرا محتسبا تاركا من وثقوا بإبداعه يكرمونه بعد وفاته كما كرم قبلا بما يليق به وإن لم تنشر إحدى رواياته التي ذكرناها آنفا إذ وفته المنية .. من كل بد محبوه .