الأنساب بين الإيجابي و السلبي
مفتاح الرباصي
قد يظن البعض أن التغير الحضاري يقاس بالتقدم المادي والإنجازات المعمارية والصناعية ،والحقيقة أن هذه الإنجازات المادية رغم أهميتها ماهي إلا انعكاس لخطوة سابقة وهي التغيير في النفس البشرية وقد نبهنا القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) فالبداية تكون بتغيير المفاهيم ومدلولات المصطلحات ويعقب هذا التغيير تغير في السلوك وأخيرا تأتي المنجزات المادية الملموسة لتعبر عن المرحلتين السابقتين من التغيير.
لقد رأيت أن أبدأ بهذه المقدمة لوجود علاقة بين هذا التصور للتغيير وبين القضية التي سأطرحها للنقاش فهذه القضية تقوم على مفاهيم ومصطلحات أصبحت مع مرور الزمن من المسلمات التي تحتاج لشجاعة لمجرد عرضها للمناقشة.
لقد لاحظنا في الآونة الأخيرة ظهور اهتمام كبير بمسألة الأنساب إذ تجاوز هذا الاهتمام الأوساط العلمية ليصبح الشغل الشاغل لعامة الناس ومن الطبيعي أن ترافق هذه الظاهرة ظاهرة أخرى ترتبط بها وهي ظاهرة البحث عن الوثائق ليس بهدف تحليلها علمياً والاستفادة منها في رصد جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية السائدة في عصر الوثيقة ولكن بهدف اكتشاف أي إشارة تفيد بالانتماء الذي يبحثون عنه ويحاولون إثباته.
لابد في البداية أن أوضح قصدي من طرح هذا الموضوع حتى لا يتم تأويل كلامي فقد عانيت كثيرا بسبب تأويله ، فمسألة الاهتمام بالأنساب لها جوانب إيجابية لا يمكن إغفالها ومنها التعارف فأنا لست ضد رغبة الأسرة أو القبيلة في التعرف على نسبها وأصولها العرقية إذا بقي الأمر في دائرة التعارف حيث وضح لنا القرآن الكريم الحكمة والهدف من تكون المجتمعات البشرية من شعوب وقبائل في قوله تعالى ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) ، كذلك تصبح مسألة الأنساب ضرورية إذا كان الهدف إثبات حق شرعي يتعلق بأرض أو شجر أو مال ، ولكن ما أقصده من الاهتمام بالأنساب يتعلق بالجانب السلبي لهذا الاهتمام وعندما يتجاوز هذا الاهتمام إطار التعارف أو إثبات الحق ليصبح الهدف التفاخر والتعالي والاعتماد على ما فعله الأجداد لإثبات أصالة وعراقة الأسرة أو القبيلة ويصبح النسب في هذه الحالة مهرباً يهربون إليه ويتناسون به الفشل في أن يكون لهم دور في الحياة.
لقد جاء الإسلام ليجد مجتمعاً كان التفاضل فيه يعتمد على قوة النسب ورابطة الدم ، فوضع معياراً جديداً للتفاضل يعتمد على صفة مكتسبة لا تخضع للون ولا جنس ولا نسب وهي التقوى وذلك في قوله تعالى ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وكانت هذه الآية الكريمة ضربة قاسمة لمعايير التفاضل في المجتمع الجاهلي وإيذاناً بظهور مجتمع جديد معتمد على التقوى وليس النسب ، وقد طبق النبي” صلى الله عليه وسلم ” هذا المبدأ فكان ‘بلال الحبشي’ و ‘صهيب الرومي’ و ‘سلمان الفارسي’ أقرب إليه من عمه أبي لهب وعمه أبي طالب فضلاً عن بقية بني هاشم وقريش.
لقد تزايدت ظاهرة الانتساب إلى آل البيت ولاشك أن كل مسلم يحترم آل البيت ويصلي عليهم في كل صلاة ، ولكن إثبات الانتماء ل آل البيت ليس بالأمر السهل بعد مرور مئات السنوات ، فهناك ملايين يدعون الانتماء إلى آل البيت وهذه النقطة تحتاج إلى طرح آخر لبيانها ولن أستغرق في الحديث عنها بل سأفترض انتماء إحدى الأسر إلى آل البيت لنهمس في آذانهم أن هذا الانتماء مسؤولية أخلاقية تدفعهم إلى الالتزام الحقيقي وتبعدهم عن الكبر والتعالي واتخاذ هذا النسب كوسيلة للارتزاق وقضاء المصالح واعتمادهم على النسب كبديل للعمل واعتقادهم بأن هذا النسب سيرفع مكانتهم في الآخرة متجاهلين عشرات الآيات القرآنية التي تجعل العمل هو مقياس التواب والعقاب ، ومن جهة أخرى فإن النبي “صلى الله عليه وسلم” قد حسم هذه النقطة عندما خاطب إبنته فاطمة بقوله ( يا فاطمة ، إعملي فلن أغني عنك من الله شيئا ).
كم نحن بحاجة لتجديد بعض المفاهيم والمصطلحات ووضعها في إطارها الإسلامي الصحيح فالتمييز على سبيل المثال كان يقاس في فترة جيل الصحابة بما يقدمه الفرد من خدمة للمجتمع ولم يكن التميز مرتبطا بالنسب ولكن بعض المفاهيم قد حرفت وتغيرت في عصور التخلف ليصبح المتميز من يعيش على الانتماء لشخص أو أسرة تجعله يعيش على استدعاء مواقف وقصص لم يشارك فيها ولكنه يجد من خلال التشبث بها تعويضاً نفسياً عن النقص الذي يعاني منه.
إن المسألة تبدو واضحة ولا تحتاج لتفسير فالله تعالى خلقك وقدر لك عمراً قد يطول وقد يقصر وأنزل إليك المنهج السليم عن طريق الرسل وسيحاسبك على ما فعلته في حياتك على الأرض ولن يحاسبك على ما فعله أبوك أو جدك مصداقاً لقوله تعالى ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ).
وفي النهاية نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.