تمر هذه الأيام ذكرى نكبة درنة ومدن الجبل الشرق، كارثة لم تكن تخطر على بال أحد، أزمة خلّف مئات الضحايا من النساء والأطفال والرجال، ومن نجوا منها لا زالوا يعانون الأمرين.
وفي هذا الصدد أعلنت الأمم المتحدة وصول حصيلة قتلى الفيضانات الكارثية في مدينة درنة شرق ليبيا إلى 11300 شخص.
وأضاف مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أن 10100 شخص آخرين ما زالوا في عداد المفقودين.
وأظهر تقييم مشترك للبنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة لأضرار الفيضانات الكارثية في ليبيا، أن تأثير الكارثة طال ما يقرب من 1.5 مليون شخص، ما يعادل 22% من سكان ليبيا، يعيشون في المدن الساحلية والداخلية التي كانت الأكثر تضررًا.
وأشار التقرير إلى نزوح ما يقرب من 44 ألفًا و800 شخص في البداية، من بينهم 16 ألف طفلًا.
آثار نفسية
الأزمة الإنسانية التي خلفها إعصار دانيال لم تقتصر على سقوط قتلى ومفقودين، ولكن الناجين من هذا الإعصار مازالوا يعانون حتى الآن من عدة آثار نفسية، حيث أظهر تقييم أجرته منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسف» مع شركائها، للأطفال المتضررين من الفيضانات الناجمة عن العاصفة أن ما يقدر بنحو 67% من الأطفال لديهم تغيرات سلوكية سلبية منذ الكارثة، وأن 48% من الأطفال في حاجة ماسة إلى الدعم العقلي والنفسي والاجتماعي المستمر، منوها إلى تأثر نحو 300 ألف طفل بالكارثة في شرق ليبيا.
ووصفت المنظمة الأممية هذه الأعداد من الأطفال بـ “الضخمة” وهي “جيلا كاملا”، حسب تعبير الطبيب النفسي شاهين الزياني الذي أوضح أن “أولئك الأطفال هم غد ليبيا لكنهم تأثروا بشدة نفسيا، وهو ما سيلقي بظلاله على كامل البلاد مستقبلا”، مضيفًا أن ما شاهده خلال معاينته لعدة أطفال في المدينة “أمر محزن للغاية”.
وأكد الطبيب الليبي أن “هناك أطفالا دخلوا في حالة اكتئاب وآخرين فقدوا القدرة على الكلام من هول ما عاشوه خلال ساعات الفيضانات التي بدأت في مقتبل المساء وجرفت المنازل التي ظلت داخلها وأمامها أعداد من الجثث إلى أن انحسرت المياه في الصباح”.
وأضاف “بل إن بعض الأطفال الذين نجوا لم يسعفهم أحد حتى وصول المساعدات بعد الظهيرة”، لافتًا إلى أن مدة الفيضانات عقب الإعصار “تقدر بأكثر من 15 ساعة كان فيها أولئك الأطفال، إما تحت أنقاض منازلهم أو جرفتهم المياه لأماكن عدة أو حتى بجانب جثث أشخاص آخرين لقوا حفتهم، وربما جثث عائلاتهم كما حدث في بعض الحالات في درنة”.
وأشار إلى أن “إدراك الطفل لهول ما عاشه يختلف كليا عن إدراك الإنسان البالغ، وهنا تتمثل الأزمة والكارثة والمصيبة”.
رأي الفرق الطبية
من جانبه أكد محمد المبروك غوار مدير مستشفى الرازي للأمراض النفسية والعصبية، أن الفيضانات والسيول التي ضربت مدينة درنة ومدن الجبل الأخضر عموما في سبتمبر الماضي زادت من حالات الإصابة بالأمراض النفسية والعصبية في هذه المنطقة، مشيرا إلى أنه تم حصر حوالي 700 حالة بعد هذه الكارثة مباشرة من خلال المستشفى الميداني الذي أقامه مستشفى الرازي في مدينة درنة المنكوبة.
وشكل مجموعة الأطباء التابعين لمستشفى الرازي للأمراض النفسية والعصبية بالعاصمة طرابلس، ومستشفى الرويعي للأمراض النفسية ببنغازي، فريقا لمساعدة المحتاجين، وقال رئيس الفريق ضياء عبد الرسول إبراهيم، «مهمتنا شاقة، ونفسية سكان المدينة تكاد تكون متصدعة”، مضيفا أن بعض الناجين من سكان درنة «لم يتمكنوا حتى الآن من أن يزيلوا من ذاكرتهم المشاهد المروعة للسيول التي جرفتهم وذويهم، وعمليات انتشال الجثث من البحر وتحت الأنقاض»، لافتا إلى أنه «ربما لن يكون هذا متاحا لهم لسنوات طويلة، وهو ما يعني أن إعادة توازنهم النفسي ليست بالمهمة السهلة».
وأضاف أنه في «الأيام الأولى للكارثة انحصرت معاناة المواطنين في الشعور بقلق حاد واكتئاب خفيف، ونوبات فزع وحزن وبكاء، وحالات هستيريا وإن كانت محدودة، لكن حالياً تعاني أغلب الحالات من الاكتئاب»، موضحا أن «الآثار النفسية الأكثر سلبية هي ما يعرف باضطرابات ما بعد الصدمة، وقد يستغرق ذلك شهورا، وربما سنوات لتظهر أعراضه بوضوح».
فيما أكد وكيل وزارة الصحة بحكومة الوحدة الوطنية سعد الدين عبد الوكيل أن “جميع سكان مدينة درنة في حالة صدمة حقيقية نظرا لحجم الكارثة، والتي تعتبر غير مسبوقة في تاريخ ليبيا”.
وذكر عبد الوكيل أن السلطات “تعمل على برنامج لتقديم الدعم النفسي معتمد من الوزارة سيشمل الجميع ومنهم الأطفال”.
وأوضح أن “الفرق التابعة لوزارة الصحة منها المستشفيات النفسية ومؤسسة الرعاية الصحية وبعض المؤسسات التابعة للشؤون الاجتماعية والهلال الأحمر والكشافة باشروا مهامهم منذ الأسبوع الماضي، بالتركيز في المدى القصير على تقديم الدعم النفسي”.
من جانبها أنشأت منظمة اليونيسيف 16 فريقًا متنقلًا لتقديم خدمات الصحة العقلية والخدمات النفسية الاجتماعية مع إعطاء الأولوية للنازحين وغير المصحوبين بذويهم والأطفال المتأثرين بشكل مباشر بالفيضانات.
ما بين استمرار معاناة أهالي درنة من الأزمة النفسية وبين المخاوف من تأثيرها على جيل كامل، يبقى من جرفتهم السيول وأودت بحياتهم ذكرى لن ينساها الليبيين، وستبقى هذه الأيام ذكرى نكبة تعرضت لها ليبيا عبر مدنها في الجبل الأخضر وخاصة في درنة.