هدى الغيطاني
أصبحت مدينة درنة بلا شلالها وواديها وشارع “الفنار” وشارع “المغار” وحي “وسع بالك”.. “تغيير كامل في جغرافية المكان، ولو أحضرنا شركات عالمية وطلبنا منها هذا التغيير لما استطاعت فعله”؛ هذه بعض الجمل التي قالها أهالي درنة والدموع متحجرة في أعينهم من هول الصدمة.
صدمة أهالي درنة لم تقف عند حد فقدان أهلهم وذويهم، وخسارة أرزاقهم وقوت يومهم، بل تتداعاها لأبعد من ذلك، فالخسارة لدى أهالي درنة تصل لحد دمار ذكرياتهم وتبعثر طفولتهم وشبابهم وانهيار أحلامهم وطموحاتهم.
هذا ليس كلامًا يُكتب عن عشق مدينة ترعرعوا فيها، إنما ينبثق من تمسك أهالي درنة بمدينتهم وتاريخها وشوارعها وأزقتها بل وكل جدار فيها، فأهل هذه المدينة يرفضون واقع الكارثة الذي غيّر جغرافية المكان ودمّر ملامحه، كما يرفضون بالضبط فقدانهم لأهلهم وذويهم، فمعالم درنة ليس جزءً من مكان يعيشون فيه، إنما هو بالنسبة لهم أكبر من ذلك بكثير.
واقع تمسك أهالي درنة بمعالم مدينتهم تلمسه مراسلو منصة الصباح عند حديثهم مع الأهالي الرافضين للكلام، فالكلام يقف في حناجرهم، والتعابير ترفض ألسنتهم النطق بها، لإدراكهم أن الحديث لن يُعيد لهم ما فقدوه، لن يُرجع شوارع مدينتهم وأزقتها وجدرانها التي تربوا بينها وكونوا ذكرياتهم فيها.
هذا الواقع الأليم أجبر الكثير من أهالي المدينة على الهجرة منها والبحث عن أي مكان آخر لا يذكرهم بهذا الواقع المرير الذي يرون فيه ماضٍ مدمر وأحلام منهارة وقد تحتاج لسنوات لبنائها.
يرون أن عمليات الإعمار في المدينة سترمم مبانٍ جديدة قد لا تشبه ذكرياتهم، ستمهد شوارع وأرصفة حديثة بعيدة عن ملامح التقليدية التي جلسوا على أعتابها مع رفاقهم.
الصناعات التقليدية
الإعمار والبناء لن يُعيد الكثير مما فُقد، فقد كانت المدينة تعج بصناعات تقليدية لا توجد خارجها مثل معامل تقطير الورد الدرناوي الذي ينتج عبره أجود أنواع ماء الورد الطبيعي وورد الشاهي المشهور جداً وصناعة الحرير اليدوي، وصناعة الذهب اليدوية التقليدية التي ينتج منها أطقم الأفراح المطلوبة في كل أرجاء البلاد.
وكل هذه الصناعات صعب أن تعود، ليس فقط لأن المعامل الخاصة بها دُمرت، بل لأن الصنّاع المهرة لهذه المنتجات مات أغلبهم غرقاً في السيول الجارفة.
الإعمار لن يعيد شلالات درنة القديمة التي كانت مزارًا ترفيهيا لأهلها وللكثير من السياح القادمين لها من خارج المدينة، لن يعيد عيون المياه التي كانت موجودة، ولن يردم العيون الجديدة التي ظهرت مثلا في عين قزوان والتي لوحظ فيها ظهور مادة لزجه، والمياه المتدفقة منها ذات رائحة كريهة.
حتى بحر درنة لم ينجو من الكارثة ولن يعود لصفائه بسهولة بسبب انجراف المباني والطرق إلى داخل البحر.
الحياة البرية
الإعمار أيضًا قد يحتاج لسنوات ليعيد الحياة البرية التي تضررت في المدينة، وفي هذا الصدد قال مدير منظمة الحياة لحماية الأحياء البرية والبحرية صالح بورزيقة، إن محمية وادي الناقة تعد هي المحمية الوحيدة في ليبيا، المعتمدة بقرار رقم 277 الصادر عن وزارة البيئة عام 2021 ميلادية، كمحمية للحياة البرية ذات أهمية عالمية كمناطق محمية للإنسان والمحيط الحيوي (ماب).
وتبلغ مساحة المحمية حوالي 10 × 15 كيلو متر مربع، وتتميز بأنها منطقة “لازالت خام”، فهي لم تشهد عمليات جرف للغابات، أو البناء العشوائي، وتعد قاموس للنباتات العطرية والطبية في منطقة الجبل الأخضر بصفة خاصة، وليبيا بصفة عامة.
وأضاف: نشطت منظمة الحياة لحماية الأحياء البرية والبحرية، من أجل جعل المحمية مكانا للحفاظ على التنوع البيولوجي والحيوي في منطقة الجبل الأخضر، فأوطنت العديد من الأنواع الحيوانية المهددة بالانقراض كالطيور الجارحة، والسلاحف البرية، وغيرها من الحيوانات، وكان للسكان المحليين دور كبير في جعل المحمية موطنا آمنا لهذه الحيوانات، ولكن الفيضانات، والسيول جرفت الغابات والعديد من الأشجار كالبلوط، والخروب، والزيتون، ونباتات طبية عطرية ورعوية، مما أدى إلى تدهور النظام البيئي للمنطقة وانجراف مساحات كبيرة من الأراضي والوديان.
كما تسببت السيول في نفوق أعداد كبيرة من الأحياء البرية والطيور إضافة لنقوق الكائنات البرية في المرتفعات في محمية وادي الناقة، والتي لم يصلها السيل، حيث أن هناك عدد كبير من الكائنات الحية النباتية والحيوانية مدرجة ضمن القائمة الحمراء للكائنات المهددة بالانقراض، تعرضت لما يسمى (ظاهرة الموت في الطبيعة).
الآثار والتاريخ
الإعمار أيضًا لن يُعيد لمدن الجبل الأخضر التي اجتاحتها السيول آثارها التي تضررت، حيث تعرضت غالبية المناطق الأثرية والطبيعية الموجودة بالمنطقة لأضرار كبيرة، وذلك حسبما أفادت دراسة الوصف الجغرافي والهندسي لأضرار سيول الأمطار وطرق المعالجة لمدينة القبة وضواحيها.
وفي هذا الإطار أشارت الدراسة إلى تضرر الأثار الموجودة على عين مدينة القبـــة، وكذلك عين الدبوسية بالردم.
فيما تضرر في مناطق الجبل الأخضر 20 من 27 موقع أثري، و 8 من 20 موقع تاريخي و متحفين من 4، وذلك وفقا لما أعلنه تقرير أعده الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع البنك الدولي والأمم المتحدة، لتقييم الأضرار والاحتياجات الناتجة عن العاصفة والفيضانات في ليبيا عام 2023، الذي قدّر حجم الأضرار الأثرية بمبلغ 21.73 مليون دولار أمريكي أي ما يعادل 106.03 مليون دينار ليبي.
ما بين المشاكل الأزمات الإنسانية التي لازالت تعصف بأهالي درنة والتي لا تبدأ عند فقدان أهلهم وذويهم لا تنتهي عند ضياع ذكرياتهم في ملامح المدينة التي جرفتها السيول، تستمر الخسائر الطبيعية والبيئية والأثرية في المدينة والتي قد لا تتمكن يد الإعمار من ترميمها، وحتى إن رمم ظاهرها فهل تتمكن من ترميم الذكريات المهمشة لملامح المدينة المنهارة في أذهان أهلها.