شهدت ليبيا، تحسنا ضمن مؤشر الحوكمة الشاملة لسنة 2023، حسب التقرير السنوي “مؤشر أداء الحوكمة الشاملة في البلدان الإفريقية”.
التقرير صادر حديثا عن مؤسسة “Mo Ibrahim Foundation”، الذي يغطي التغيير على مدى 10 سنوات (2014-2023)، بين أن ليبيا حصلت على المرتبة 46 بعد أن كانت على رأس الدول الأضعف في هذا المؤشر.
عانت ليبيا تاريخيا ً من غياب الحوكمة ومبادئها، أبرزها المساءلة والشفافية، إذ تشير معظم التقارير الدولية إلى تدني عدد كبير من مؤشراتها في ليبيا مقارنة بدول أخرى.
بعد عام 2011، وعلى رغم تغيير النظام السياسي، إلا أن الحكومات المتعاقبة والجهات والمؤسسات المستحدَثة، مثل مركز دعم القرار في ديوان رئاسة الحكومة، وإدارة البناء المؤسسي في وزارة التخطيط، وإدارة الحوكمة في مجلس رئاسة حكومة الوفاق الوطني، لم تصدر تقارير دورية عن الحوكمة وتطبيقاتها.
ويعكس ذلك عدم التزام الإدارة العامة الليبية بالحوكمة، وغياب الاهتمام بتطبيقها، وتجاهل اقتراحات قدمتها مؤسسات دولية وبعض الفاعلين الدوليين ونتيجة غياب الاستقرار السياسي والرؤية الواضحة في بناء المؤسسات السياسية والاقتصادية، غاب عدد كبير من مؤشرات الحوكمة، منها ما يتعلق بالمساءلة والشفافية، وأكدت ذلك التقارير الصادرة عن ديوان المحاسبة، وهيئة الرقابة الإدارية، والتي أشارت إلى شيوع المحاباة والمحسوبية، خصوصا ً في المؤسسات العامة، وغياب نظام الجدارة والكفاءة، ولفتت أيضا ً إلى غياب الهياكل التنظيمية والملاك الوظيفي، واستمرار ظاهرة التسيّب الإداري، وظواهر أخرى سلبية أخرى تشير إلى ضعف وقصور في المؤسسات العامة.
وفي هذا الصدد أجريت العديد من الدراسات العلمية التي تناولت قضية الحوكمة في المؤسسات الليبية، منها دراسات تتعلق بالحوكمة الأمنية والتي شخّصت تأثير الانقسام السياسي في الأمن والبنية الأمنية في البلاد، وبينت أن غياب حكومة مركزية موحدة ساهم في بروز آليات تسوية الصراعات غير الرسمية، وسلطات الأمر الواقع عبر المجموعات المسلحة المتمثلة في الميليشيات، والتي غالبا ً ما تسعى إلى تحقيق مصالحها بالدرجة الأولى.
اللامركزية والحوكمة
وركزت دراسات على مسألة “تمكين اللامركزية” تحديدا ً بعد عام 2011، حيث أشارت بعض المقاربات إلى ضرورة إشراك الفاعلين المحليين بشكل مباشر في الملفات الأمنية والاقتصادية والسياسية، من خلال اقتراح مقاربة، أي نموذج المدينة والمعيار يرتكز على سُبُل تمكين الأجسام الأولى المحلية لتكون مؤهلة لتستلم حصصها العادلة من عائدات النفط والمساعدات الدولية، ويتم ذلك من خلال لجنة تتضمن تكنوقراط ليبيون، وخبراء أجانب، بهدف رصد دور الفاعلين المحليين مثل المجموعات المسلحة، وضبط سلوكهم على الأرض في ما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، ويمكن الاستفادة ورصد السرقات وأعمال العنف من بعض تلك الدراسات في تنظيم التنويع على المستويات المحلية.
دور الفاعلين في الحوكمة
دراسات ركزت على دور الفاعلين غير الرسميين والمؤسسات غير الحكومية “المؤسسات الموازية للدولة، وتركز هذه الدراسات على القبائل التي تعززت قوتها نتيجة ضعف الدولة الليبية ومؤسساتها، خصوصا بعد عام 2011، وشدد عدد ٌ كبير من تلك الدراسات على ضرورة العمل لإصلاح المؤسسات، خصوصا ما يتعلق بحفظ السلام وتسوية النزاعات، استنادا إلى الآليات التقليدية لتسوية النزاعات والتي تعتمد على العُرف، وتؤكد بعض الدراسات على أن القبائل ومنظمات المجتمع المدني والنساء من أبرز قنوات تحقيق المصالحة الوطنية، فالقبيلة بصفة خاصة قامت بالحفاظ على الأمن في فترات الانتقال.
دراسات ركزت على دور الفاعلين الدوليين والاقتراحات التي تقدمها أطراف دولية، من خلال تحديد أولويات لمبادرات الإصلاح في ليبيا، وهي النمو الاقتصادي، والإصلاح السياسي، وإصلاح القطاع الأمني.
رأي الليبيين في الحوكمة
دراسات اعتمدت على المسوح الميدانية للاطلاع على آراء الليبيين في ما يتعلق بقضايا الأمن والحوكمة والمؤسسات، وأظهرت نتائج بعض تلك الدراسات، تحديدا ًالتي أُجريت بين عامي 2012 و2014، عدم ثقة الليبيين بالمؤسسات السياسية التي برزت بعد عام 2011، إلا أنهم لم يفقدوا الرغبة في تحقيق قضايا الحوكمة وبناء المؤسسات في ليبيا: تصنيف ومراجعة عامة للدراسات السابقة الديمقراطية، ويتمسكون بالعملية الدستورية، ويرون في الدستور الضامن للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمواطنين، وقد يكون ذلك مفيدا ً لتعزيز وضمان نجاح الحوار الاجتماعي الاقتصادي في ليبيا.
دراسات تضمنتها تقارير دولية، أبرزها تقرير الإسكوا الثالث عن الحوكمة العربية 2018، “التطوير المؤسسي في أوضاع ما بعد الصراع: نحو مؤسسات سلمية وشاملة، ومؤسسات خاضعة للمساءلة “، وتطرق التقرير في طبعته الثالثة إلى عدد من النقاط المتعلقة بقضايا الصراع وعلاقتها ببعض المفاهيم، منها الحوكمة، والمؤسسات، والحكم الرشيد، والشرعية، وغيرها من القضايا التي تهم المجتمعات في مرحلة الانتقال. وسلط التقرير الضوء على أفضل الممارسات بعد الحرب بحسب تجارب دولية وإقليمية، واقترح استراتيجيات وتوصيات سياسية لكل من ليبيا واليمن، كما ركز على النتيجة المباشرة لوقف القتال والتسوية السياسية في المستقبل، وتم تصميم خرائط طرق وفقا ً للظروف في كل بلد، وذلك بهدف المساعدة على ضمان انتقال شامل وعملية قائمة على توافق الآراء لإصلاح هياكل الحكم وإعادة تأهيل المؤسسات الرئيسية بعد التسوية السياسية، إلى جانب بناء مؤسسات فعالة وخاضعة للمساءلة، قادرة على توحيد عملية اجتماعية اقتصادية مستدامة، وتوحيد الرؤى السياسية والاقتصادية، ووضع نموذج جديد لإدارة الموارد الطبيعية في ليبيا وتوزيعها وتطويرها.
مظاهر فشل الحوكمة
ومن أبرز مظاهر فشل الحوكمة في ليبيا: عجز السلطة المركزية عن التحكم في الحيّز الجغرافي؛ فشل الإدارة العامة في إدارة المؤسسات العامة؛ الإخفاق في تطبيق اللامركزية، تفشي الفساد المالي والإداري في معظم القطاعات العامة والخاصة.
تدابير تعزز تبني الحوكمة
ومن التدابير التي تعزز تبنّي الحوكمة في ليبيا: وضع استراتيجية وطنية شاملة لتطبيق الحوكمة؛ إنشاء مؤسسة تأخذ على عاتقها تنفيذ الاستراتيجية وترجمتها إلى برامج عملية قابلة للتطبيق؛ مراجعة التشريعات لتكون الحوكمة من ضمن أولوياتها؛ نشر الوعي المجتمعي في ما يتعلق بمعايير الحوكمة وتطبيقاتها من خلال تعزيز دور المجتمع المدني ووسائل الإعلام والمناهج الدراسية.
ما بين مساعي ليبيا لتفعيل الحوكمة والتطور الذي تشهده لتحقيقها، تبقى هناك العديد من العقبات التي تقف أمام تنفيذها بشكل كامل للوصول إلى حوكمة حقيقية في مختلف المؤسسات.